حبيبتي جدة... إلى أين؟
أكتب اليوم عن لقاء مفتوح وصريح جداً مع الشيخ "وهيب بن زقر" التاجر المعروف والكاتب البارز الذي يحفل تاريخه بالعطاء نحو بلادنا الحبيبة. استضافت اللقاء (المنعقد يوم السبت 8 المحرم 1428) الغرفة التجارية الصناعية بجدة بحضور رئيس مجلس إدارتها الموقر الأستاذ صالح التركي. ولسعادتي كان اللقاء خالياً من التملق والإفاضة وتميز بالعملية في الطرح وسرعة تدوير المواضيع المتعلقة بمشاكل التطوير في جدة خلال الفترة المحددة للنقاش. ولست هنا بصدد سرد وقائع اللقاء ولا تشخيص الأمراض التطويرية والعمرانية والسكانية في مدينة جدة لأن كلنا يعرف كل (أو بعض) هذه المشاكل التي أرهقتنا نحن سكان هذه المدينة. لكنني أخلع اليوم ثوب التحليل الاستثماري، مستبدلة إياه بثوب المواطن السعودي لأن جدة هي مدينتي التي كبرت فيها وأحببتها برغم كثرة أسفاري واختلاطي بسكان العالم من شتى الأقطار. وبالمناسبة فإن معرفتي بمشاكل مدينة جدة هي من خلال الصحف المحلية عموماً وملاحظاتي الشخصية أثناء تنقلي في شوارعها، إذن فإني لا أملك أي مصادر معلومات خاصة عند كتابتي هذا المقال.
سأكتفي بملاحظاتي وآرائي الشخصية تجاه النقاش الذي أتوقع أن يتم تلخيصه في الصحافة المحلية.
أجمل ما قيل
أبدأ بما قاله الأستاذ وهيب خلال اللقاء: "كل ساكن بمدينة جدة هو من أهل جدة" نابذاً بذلك العنصرية العرقية التي يتصف بها العديد من السعوديين عامة (سواء كانوا من المسؤولين أو عامة الشعب) وشعور اللامبالاة الذي يتميز به سكان جدة من الأجانب والسعوديين معاً. أي باختصار كلنا مشتركون في مسؤولية الحفاظ والنهوض البنيوي والحضاري لهذه المدينة. وهذا الشعور بالانتماء هو فطرة بشرية يتصف بها الإنسان المتحضر نحو مسكنه وشارعه ومدينته أياً كانت، فعندما كنت أسكن مدينة بوسطن الأمريكية اعتبرت نفسي من أهلها وقمت بدوري في الحفاظ على نظافة مسكني وشارعي ولم تتولد لدي اللامبالاة مطلقاً بحجة أنها ليست بلادي.
لب المشكلة
تحدث الأستاذ صالح التركي عن فقدان التواصل البنّاء بين مختلف الجهات التنفيذية والإدارية المعنية بالخدمات وغياب الخطة الاستراتيجية المتكاملة وليست المتناثرة الأشلاء، وبذلك يكون قد لخص المشكلة فعلاً. وأقول: إنه عندما يكثر صانعو القرار تكون النتيجة "انعدام القرار" وتعليق المشاكل "بحجة أن هناك مواضيع ذات أولوية" أو "أن الأمر مازال تحت الدراسة". ونظرة واحدة إلى أخبار الصحف المحلية يمكن الاستدلال بها على صحة هذا القول وزيارة واحدة إلى أي دائرة حكومية (إلا ما رحم ربي) يتجسد فيها شبح البيروقراطية وانعدام التنسيق بين الجهات المعنية والتي قد تصل إلى خمس جهات معنية بشأن واحد في آن معاً (اقرأ مقال "هل نحتاج كل هذا العدد من الهيئات الحكومية والوزارات - الأستاذ راشد الفوزان – "الاقتصادية" تاريخ 21 ذو الحجة 1427هـ). وقد زخرت جريدة "الاقتصادية" بالعديد من المقالات التي تحدثت عن البيروقراطية والتي أصبحت جزء لا يتجزأ من معاملاتنا بل ربما أصبحنا نحن أنفسنا روتينيين نميل للرتابة وبطء المعاملات التجارية فنخشى أن نوقع على قرار لا يحتاج إلى سنوات من التفكير ونتردد قبل أن نتخذ خطوة إصلاحية بديهية.
وأقول: كلنا يعرف المشكلة بشكل أو بآخر ولكن حان الوقت هنا للمساءلة والوقوف يداً بيد لنتخذ موقفاً موحداً كأهالي المدينة في الماضي والحاضر والمستقبل لأولادنا من بعدنا – إننا نقف الآن عند مفترق الطرق، فإما ساءلنا وحاسبنا ومن ثم أصلحنا لينتهج أولادنا من بعدنا نفس النهج، وإما سرنا من سيئ لأسوأ بعده تصبح جدة الحبيبة نسياً منسياً.
النسيج السكاني لمدينة جدة
تغيّرت التركيبة السكانية والنسيج الاجتماعي في مدينة جدة وذلك لعدة عوامل على رأسها الوافدون من العمالة بأنواعها جميعا ومتخلفو الحج والعمرة الذين ولد بعضهم هنا ولا يعرف غير جدة موطناً ولم تتمكن الجهات الرسمية حتى الآن من وضع وتنفيذ أي حلول مناسبة لهذه المشكلة. إضافة إلى ما سبق فإن عامل الهجرة إلى المدن من القرى والمدن الصغيرة المجاورةurban migration أسهم كثيراً في تغير البناء الاقتصادي –وحتى الاجتماعي - لهذه المدينة التي تجاوز عدد سكانها الثلاثة ملايين نسمة (طبعا ليس بفعل التناسل البشري لأهل جدة!). كل هذه العوامل تحول سكان جدة الأصليين بسببها إلى أقلية. وما يقلقني في الحقيقة هو تأثير النسيج الجديد على مختلف الأصعدة خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد والخدمات التي تخضع منطقياً لقوانين العرض والطلب. وفي الحقيقة أن هذه مشكلة أي مدينة cosmopolitan (أي متعددة الجنسيات بلغة المدن)، فعلى سبيل المثال مدينة نيويورك أو دبي تعانيان من نفس الظاهرة، ولكن أين نحن في جدة من مستوى التنظيم والتجهيز الذي تنعم به هاتان المدينتان – واللتان برغم ذلك لم تخل من المشكلات القادمة مع وافديها.
الزيادة السكانية.. اختبار حقيقي
يجدر الذكر أن عامل الزيادة السكانية يمكن تحويله إلى عنصر نجاح أو فشل وهو اختبار لفعالية أو قصور القوانين الاقتصادية والتنموية. فعلى سبيل المثال كانت دولتا الصين والهند تواجهان أكبر تحدٍ لهما وهو الانفجار السكاني لكنهما استطاعتا خلال عقدين من الزمن أن تتحولا إلى كتل اقتصادية محركة لرأس المال العالمي، وبنظرة بسيطة إلى صناديق الاستثمار العالمية نجد فئة كبيرة منها تتخصص في الاستثمار في الهند والصين واقتصادات الدول الناشئة. وبالمقابل دول عديدة أخرى تواجه التحدي نفسه ولكنها تفشل في اجتيازه، فما الفرق؟ أترك لكم الإجابة.
أضرب مثالاً من داخل مدينة جدة: بعض المشاريع الصغيرة النسوية استفادت من النمو السكاني الكثيف مثل المطابخ المنزلية وخدمات إيصال الوجبات إلى المنزل وخدمات رعاية الأطفال وغير ذلك وتحولت صاحباتها إلى سيدات أعمال ماهرات. وفي المقابل فشل العديد من الدوائر في توحيد الإجراءات اللازمة لمشروع صغير أو متوسط في فترة زمنية معقولة. والنتيجة كانت ازدهار بعض النشاطات الجيدة دون اعتماد الجهة الرسمية المسؤولة، لقصور البنية القانونية لها وكأن لسان الحال يقول: "القانون لا يسمح ولا يمنع وطالما أنه نافع وحلال فما المانع".
وفي الحقيقة لي مأخذ على رجال الأعمال والقطاع العام مناصفة في مسألة الاستثمارات داخل المدن. فمن الملاحظ الزيادة الغريبة في نسبة العقارات والمراكز التجارية مع غياب الاستثمار في الخدمات – والتي توفر لها الزيادة السكانية فرصاً ذهبية - مثل مواقف السيارات والحدائق العامة والمتاحف السياحية، وكلها يمكن أن تتحول إلى مشاريع مدرّة للدخل من خلال تعرفة الدخول أو توفير الخدمات المصاحبة أو غرامات النظافة فيها (!)، إضافة إلى الإسهام في الحد من البطالة. وكلنا يرى الزيادة المطّردة في المراكز التجارية ومحطات الوقود التي امتدت إلى داخل أحياء جدة السكنية الراقية وأصبحت تضر سكانها الذين دفعوا مبالغ طائلة في تلك الأراضي. "وقفة محاسبة لمانحي هذه التراخيص!".
خطة أم مسؤول؟
برغم أننا نحتاج إلى خطط استراتيجية طويلة المدى لكن التغيير المستمر لهذه الخطط وكأن الخطط مرتبطة بالمسؤول هو أمر مرفوض بتاتاً. ولطالما يتم الإفصاح عن مشاريع تنموية سوف تستغرق خمس أو عشر سنوات لإنجازها ولكن دون متابع للتنفيذ وتمر خمس بل عشر سنوات تفنى خلالها أجيال ويذهب خلالها مسؤولون وتطمر معها هذه المشاريع. فأين المحاسبة يا إخواني؟ إن خمس سنوات قد تبدو فترة متوسطة المدى تخطيطيا ولكنها تنفيذياً تكفي لإنجاز الكثير من المشاريع والخطط بضمير وعزيمة غير مرتبطة بمصلحة شخصية. عدت إلى جدة من الولايات المتحدة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) ولم أر سوى تغيرات عمرانية محدودة والآن وقد مرت ست سنوات (نعم ست سنوات كاملة عملت خلالها في الوسط الاقتصادي وأنجبت طفلتين وترقيت في عملي وتوالت أحداث عالمية غيرت مجرى الاقتصاد والسياسة وحتى المناخ) ومازالت الخطط "الجداوية" تحت الإنشاء والدراسة!
نقص السيولة حجة ضعيفة
أثيرت في اللقاء مسألة شح السيولة الراغبة في الاستثمار داخل البلاد. وأقول: هذا صحيح من جهة وخاطئ من جهة أخرى. فهو صحيح لأن رأس مال المستثمر ليس كبش فداء يضحي به المستثمر عند انعدام البيئة المناسبة للاستثمار وبالشروط التعجيزية والتمويلية. إلا إنه خاطئ 100 في المائة إذا اعتبرناه نقصاً في السيولة وإلا ما كنا شهدنا سوقاً للأسهم يتضاعف رأس مالها إلى ترليونات الريالات في فترة قياسية أو ما أعلمه جيداً عن رؤوس الأموال السعودية التي توقع عقودا بالمليارات خارج المملكة في سبيل "العائد على رأس المال". والمشكلة أيضاً ليست مشكلة "ولاء"، فهل ولاؤنا مثلا لبورصة اليابان أو مشاريع التنمية في اليمن أو سوق العقار في بريطانيا يفوق ولاءنا للسعودية؟ إذن فالمال موجود وكذا الرغبة لكن ينقص التخطيط الذي يقلص نسبة المخاطر الاستثمارية في أي مشروع risk mitigation والثقة التي يحتاج إليها المستثمر كحجر أساس لأي مشروع.
النقل والمواصلات في جدة: نحتاج إلى وقفة صارمة
المواصلات .. لها حديث ذو شجون والأدهى من ذلك أنه لا عذر لمهزلة المواصلات والاختناقات المرورية في جدة. دعونا من دور الأمانة في تخطيط الشوارع ومواقف السيارات فهذا أمر آخر، ولا يهم الآن من المسؤول في وزارة النقل عن عرقلة المشروعات الضخمة التي تقدمت بها جهات عدة لتطوير النقل العام. سؤالي هو: لماذا لا يزال النقل تحت القطاع العام؟ وهل من المعقول أن تصبح سيارات الأجرة البغيضة وسائقيها المتهورين هي وسيلة النقل الرئيسة في هذا البلد؟ وما هي البدائل المتاحة لضعاف الحال والفقراء للتجوال والانتقال، (بعد منع "الكوستر" الذي كان يجوب أنحاء جدة شمالاً وجنوباً دون حوادث تذكر؟). أفضل ما قرأته هنا هو مقال الأستاذ محمد عبد الله الشريف على صفحات "الاقتصادية" الذي يصف فيه – بشكل كوميدي ومأساوي - مأساة النقل في السعودية. والذي أعلمه أنه تم تقديم عدة عروض تطويرية لهذه المشكلة وقوبلت بالرفض من الجهات المعنية دون أسباب معقولة. ولا .. ليس الخلل في الميزانية فمليكنا - حفظه الله - ما قصّر في الإغداق على قطاع النقل والمواصلات من ميزانية الدولة. كذلك بعض رجال الأعمال ما زالوا على أتم الاستعداد للتمويل وبعض الدول عرضت مساعداتها الفنية. وبرغم الصلاحيات التي تتمتع بها الجهات المعنية إلا أنه لا يحق لها رفض الحلول التطويرية دون إعطاء أسباب واضحة ومقنعة، وإن لم تكن الأسباب مقنعة فمن واجبنا كسكان هذه المدينة أن نعترض على هذا الأمر، فاستمرار الخطأ لا يعني أننا مسلوبو الإرادة بل يعني أن قبولنا له طوعاً.
العمل التطوعي
اشتكى البعض من عشوائية العمل التطوعي وتحدث البعض عن أهميته في تفعيل البرامج والاحتياجات في مدينة جدة. أقول نعم لعشوائية العمل التطوعي لكن في المقابل يجب ألا ننسى أن أهل الحجاز معروفون بحبهم للعمل الاجتماعي وما أكثر المساكن الخيرية والأربطة والتبرعات التي تشهدها المدينة أثناء المواسم وعلى مدار العام. ربما ما ينقص فعلاً هو "احترافية" العمل التطوعي بحيث يجب أن يتم تحت إشراف متخصصين محترفين في الخدمة الاجتماعية. ثانيا – وهو ما أثارته إحدى الحاضرات - أن روح العمل التطوعي تبدأ من داخل المنزل حتى تربى الأجيال على هذا السلوك.
وأقول: إنه حالما يقع العمل التطوعي في براثن البيروقراطية التي تتميز بها دوائرنا فقد حكم عليه بالإعدام، والنتيجة فقدان الثقة والمصداقية في الرغبة في التغيير وتولد شعور اللامبالاة والسلبية التي أصبح الآن يتصف بها سكان هذه المدينة.
وفي النهاية أتمنى أن أرى المزيد من التعاون بين مختلف القطاعات والصحافة المحلية، فهي العصب الذي يزودنا بما لا نعلم عن مدينتنا. وأشيد كذلك بالاستفتاء الذي أجرته أمانة مدينة جدة بإشراف المهندس عادل فقيه الذي استطلع فيه آراء سكان المدينة، والجميل أنه استمر في تواصله معنا إلكترونيا مخبراً أنه أخذ آراءنا بمنتهى الجدية في خططه التطويرية.
وختاماً:
يقضي مفهوم الاقتصاد الحر (الرأسمالي) بتقليل تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي ما أمكن، وأن تركز الدولة على تهيئة النظام والبيئة الملائمة لقيام نشاط اقتصادي يحقق قيمة مضافة للاقتصاد ويؤدي إلى توظف أعلى للموارد ومن ضمنها الموارد البشرية. مما يعني أن وظيفة الدولة يجب أن تركز على سن القوانين التي تهيئ ممارسة النشاط الاقتصادي بشكل يحقق الأهداف الاقتصادية العامة للدولة. أ. فهد الشثري
(كيف تكون السعودة رقماً في حسابات الدخل القومي؟ -– الاقتصادية تاريخ 28 يناير 2007)
والله من وراء القصد..