سوق النفط على طريق التوازن بين العرض والطلب
رغم تراجع سعر برميل النفط بنحو 15 في المائة منذ بداية العام، وتجاوزه 50 دولارا لفترة وجيزة في الثامن عشر من الشهر الحالي، وهو ما لم يشهده معدل الأسعار منذ 19 شهرا، إلا أن الاتجاه العام والتوقعات لوضع العرض والطلب هذا العام حتى الآن تشير إلى حدوث شيء من التوازن بما يسمح للأسعار أن تبقى في حدود 50 دولارا للبرميل، وفق سلة منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، وأن إعلان الخفض في اجتماعي الدوحة في تشرين الأول (أكتوبر) وأبوجا في كانون الأول (ديسمبر)، رغم أنه لم يتم تنفيذهما بصورة دقيقة، إلا أنهما أسهما في إيجاد أرضية للسعر يقف عليها.
ويعود ذلك إلى قيام السعودية بتحمل العبء الأكبر في الخفض، بل إنها بدأت في واقع الأمر في تقليص إنتاجها حتى قبل قرارات الدوحة، لكن إلى جانب ذلك هناك واقع الحال في ثلاث دول، اثنتان منها لم تستطيعا الوفاء بإنتاج كامل حصتيهما المخصصتين لهما وهما إندونيسيا وفنزويلا، والثالثة وهي العراق ظل إنتاجها في حدود 1.8 مليون برميل يوميا بما يقل عما كان عليه قبل الحرب التي هدفت إلى الإطاحة بنظام الرئيس السابق صدام حسين في 2003، وهو ما يزيد على المليوني برميل يوميا، هذا إلى جانب المتاعب التي تحيط بالإنتاج النيجيري وأضعفت قدرته على النمو.
الأولى، وهي إندونيسيا، تعاني من ضعف في الطاقة الإنتاجية، وهي الدولة الوحيدة العضو في "أوبك" التي لم تستطع رفع إنتاجها والاستفادة من الطلب العالي خلال السنوات الثلاث الماضية. أما الثانية، وهي فنزويلا، فيبدو أنها لم تتعاف قط من آثار الإضراب الذي لحق بالصناعة النفطية في نهاية العام 2002. والنتيجة أنه بسبب تقصير إنتاج هذه الدول الثلاث عن تحقيق أهدافه، فإن حجما إنتاجيا يبلغ 1.28 مليون برميل يوميا ظل غائبا عن إمدادات المنظمة.
وبصورة عامة يمكن القول، ووفق تقارير متعددة لمتابعي شؤون السوق، إن الشهر الماضي، وهو ثاني شهر يفترض أن يتم فيه الاستمرار في تطبيق برنامج خفض الإنتاج، أن إنتاج الدول الأعضاء تراجع بنحو 460 ألف برميل يوميا إلى 28.79 مليون وفق تقديرات لنشرة "ميس" النفطية المتخصصة، وأن الدول العشر الملتزمة بسقف إنتاجي معين تراجع إنتاجها إلى ما يقل قليلا عن 27 مليون برميل يوميا لأول مرة خلال العام الماضي، وذلك رغم تعطيل نظام الحصص، الأمر الذي يجعل من التطبيق الكلي لقرارات خفض الإنتاج وإزالة قرابة 600 ألف برميل يوميا أخرى تأثيرا في الأسعار بصورة واضحة، خاصة أن هناك قرارا بالمضي قدما في تنفيذ حزمة خفض أخرى تزيل نصف مليون برميل ابتداء من يوم الخميس المقبل.
وإذا كان هذا ما يتعلق بما حدث حتى الآن، فإن التوقعات بشأن العام الحالي تتفاوت ولو أنها تتجه في غالبها إلى احتمال نمو في الطلب على النفط يراوح بين 1 و1.5 في المائة إذا أخذ في الاعتبار تقديرات كل من النشرة الشهرية لمنظمة "أوبك" وكذلك تقرير المركز الدولي لدراسات الطاقة في لندن، إلى جانب التقرير الشهري للوكالة الدولية للطاقة في باريس، وصدرت كلها في أوقات متباينة من هذا الشهر.
في تقدير المركز الدولي، فإن هذا العام سيشهد نموا في الطلب يزيد على 1 في المائة للعام الثالث على التوالي، ومرجعا ضعف نسبة النمو إلى أن الأسعار المرتفعة خلال الأعوام الماضية بدأ تأثيرها السلبي يظهر الآن وبصورة مباشرة على الطلب. وراجع المركز معدل نمو الطلب العام الماضي مقلصا حجمه بنحو 100 ألف برميل إلى 800 ألف، وهو ما يرجع بصورة رئيسية إلى أن دفء موسم الشتاء الحالي أثّر في الطلب بالنسبة لزيت التدفئة مثلا، ورغم أن هذا الوضع سيستمر خلال الربع الأول من هذا العام بما يؤدي إلى التخلي عن 75 ألف برميل من زيت التدفئة، إلا نسبة النمو المتوقعة للطلب بصورة عامة قد تصل إلى 1.25 مليون برميل يوميا، حيث لا تزال الدول النامية عموما والصين والهند تشكل المصادر الرئيسية لهذا النمو.
وبالنسبة للإمدادات من خارج أوبك، فمع أن إنتاج كل من المكسيك، النرويج، والبرازيل سيشهد تراجعا، إلا أنه يمكن أن يتم التعويض عنه بالزيادة في إنتاج روسيا، وبعض دول بحر قزوين، الأمر الذي يرفع الإمدادات من خارج المنظمة من 49.6 مليون برميل خلال العام الماضي إلى 50.9 مليون هذا العام، علما بأن أنجولا تحولت إلى معسكر "أوبك"، الأمر الذي سيرفع حصة المنظمة في السوق إلى 34 في المائة، بزيادة درجتين عما كانت عليه حصتها قبل انضمام العضو الثاني عشر للمنظمة.
ويبلغ إنتاج انجولا في الوقت الحالي نحو 1.5 مليون برميل يوميا يخطط لها أن ترتفع إلى 1.9 مليونا بنهاية العام ما لم يتم وضع سقف لتصاعد إنتاجها بسبب عضويتها المكتسبة في المنظمة. وباحتياطيها البالغ تسعة مليارات برميل مؤكدة، فإن أنجولا تحتل المرتبة التاسعة عشرة عالميا من ناحية الاحتياطيات، وتنشط فيها شركات عالمية يمكن أن تسهم في رفع الإنتاج ما لم يتم تقييد ذلك بسبب اكتساب عضوية "أوبك".
الوكالة الدولية للطاقة من جانبها تتفق تقديراتها مع المركز الدولي في حدوث تراجع على الطلب العام الماضي بمقدار 100 ألف برميل إلى 800 ألف، وتضع سيناريو الطلب هذا العام في حدود 1.4 مليون برميل يوميا، لكنها تضع احتمال حدوث تراجع في الإمدادات من خارج أوبك بنحو 300 ألف برميل يوميا بسبب متاعب إنتاجية عند منتجين كبار أمثال المكسيك والنرويج، خاصة مع استبعاد أنجولا من معسكر المنتجين من خارج "أوبك". لكن من ناحية أخرى تشير الوكالة إلى أن حجم الطاقة الإنتاجية المتاحة لدى "أوبك" في الوقت الحالي تبلغ 2.5 مليون برميل يوميا مع استبعاد العراق.
التقرير الشهري لـ "أوبك" عن حالة السوق يتوقع أن يكون متوسط الطلب على نفط المنظمة خلال العام الحالي في حدود 30.1 مليون برميل يوميا بتراجع 200 ألف برميل عما ضخته "أوبك" فعلا خلال العام الماضي. وتقديرات المنظمة راجعت معدل الطلب العام الماضي إلى 84.13 مليون، ترتفع هذا العام إلى 85.39 مليون برميل يوميا، بزيادة 1.26 مليون، أو 1.49 في المائة عن معدل إمداداتها العام الماضي.
الوضع الراهن يشكل حالة من التوازن السعري الذي يحتاج إلى متابعة يقظة لضمان استمراره، وهو ما يفرض السؤال إذا كانت المنظمة وصلت إلى قناعة غير معلنة أن معدل 50 دولارا للبرميل هو السعر الذي تستهدفه، أم هو الذي فرضه واقع الحال، ومن ثم فهي تقبل به في النهاية.
والمفارقة في هذا كله أن المنظمة أوقفت العمل بنظام الحصص، كما أنها لم تحدد السعر العادل الذي ترغب فيه، ويتم اللجوء إلى آلية خفض الإنتاج للدفاع عنه. لكن يبقى انتظار ما تسفر عنه مشاورات الوزراء، فأي سعي نحو معدل سعري أعلى يتطلب بداية التطبيق الحازم لقرارات خفض الإنتاج في الدوحة وأبوجا بما يجعل السقف الحقيقي في حدود 25.8 مليون برميل ابتداء من مطلع الشهر المقبل.