الماضي يقود العرب بينما الحاضر والمستقبل يوجهان الأمم الأخرى
الذي يتابع الشؤون العربية ويدرس الوضع الذي يجد العرب فيه أنفسهم اليوم قد يخرج بمحصلة مفادها أن للتاريخ سطوة كبيرة على الحاضر، وأن الحاضر ليس إلا انعكاسا للماضي.
لا شك أن للماضي تأثيرا كبيرا في حياتنا ووجودنا. ونحن نكتسب الكثير من التاريخ وأحداثه وأفكاره وعقائده وأديانه من الوالدين والبيئة التي ولدنا ونشأنا فيها. أكثرنا لم يختر الدين أو حتى المذهب الذي هو عليه. وإن أخذنا حتى شؤون حياتنا الخاصة، لرأينا أن الكثير من المواقف والأفكار التي نحملها لها ارتباطات وثيقة بالماضي.
والماضي - التاريخ - له وقع على الناس يختلف حسب الزمان والمكان ومدى تأثيره في تكوين الشخصية الثقافية للفرد. هناك أمم لا تكترث لماضيها. جل اهتمامها ينصب على حاضرها ومستقبلها. الشعب السويدي يعيش لحاضره ومستقبله. يرى حاضره نقطة مضيئة لم يرتق إلى مستواها ماضيه. الشعب السويدي يرى أمجاده في حاضره الذي يفتخر به كثيرا ويتخذه منصة للانطلاق صوب المستقبل.
وهكذا نستطيع القول إن الشعب السويدي، مثلا، ليس أسير الماضي. الماضي لا يحدد مسيرة حاضره. السويديون لا يريدون أبدا العودة إلى الوراء ولا يرون أن النقاط المضيئة في تاريخهم ووجودهم كأمة وقعت في الماضي، وأن القمة في الحضارة والثقافة والمدنية وأسلوب الحكم كانوا قد وصلوا إليها في فترة ما من تاريخهم ''التليد''.
الشعب السويدي يرى أن القمة في الحضارة والمدنية والثقافة والأخلاق الإنسانية والتطور العلمي والتكنولوجي لم يصلها بعد، وأن عليه الصراع والكفاح والمثابرة لبلوغها في المستقبل، وأن الحاضر ما هو إلا نقطة انطلاق ليس صوب الماضي، بل صوب المستقبل. قلما يتبارى السويديون في اقتباس تاريخهم أو ذكر أحداثه أو أعلامه أو أيامه والإتيان بها كمثال يجب الاحتذاء به في الحاضر.
والسبب بسيط لأن الحاضر منحهم من الأعلام والأحداث والأيام والنماذج ما يبز من ناحية الأخلاق الإنسانية والعلم والحضارة والثقافة والمعرفة، كل ما أنتجه تاريخهم وماضيهم السحيق، وهم ينتظرون كل يوم ولادة معجزة علمية أو ثقافية أو تربوية أو تكنولوجية أو أدبية أو مدنية أو حضارية، تشكل لهم نبراسا للاقتداء بها والانطلاق بقوة صوب المستقبل.
تأثير التاريخ وما حدث في الماضي في تكوين الشخصية العربية والإسلامية بصورة عامة يختلف عن تأثيره في الشخصية السويدية مثلا. هذه مسألة لا يجوز إغفالها. للعرب والمسلمين تاريخ وماض يرون فيه ما لا يراه غيرهم في تاريخه وماضيه.
بيد أن التاريخ والماضي العربي والإسلامي كان حافزا لنشوء حضارة ومدنية فائقة التطور من حيث زمانها ومكانها، وهذا بشهادة المختصين من غير العرب والمسلمين. هناك نقاط مضيئة ومجيدة في التاريخ العربي والإسلامي. والإسلام كدين - شأن أي دين سماوي آخر - أتي نعمة للبشرية. الإسلام كفكر وممارسة أخرج العرب من الظلمات إلى النور ومن الجهل والجاهلية إلى المعرفة. أي كان الإسلام عند بزوغه نقطة مضيئة ومجيدة في تاريخ العرب عندئذ، أي حاضرهم في ذلك الزمان، حيث نقلهم من حالة إلى حالة إنسانية أفضل بكثير مما كانوا عليه وما كانت عليه الأمم في حينه، من ضمنها القوى العظمى - الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية - اللتين كانتا تسودان العالم عندئذ.
شأن العرب غريب وعجيب اليوم ليس لأنهم ربطوا مصيرهم بالماضي، بل لتكريسهم لأحداث وخطابات شكلت في حينه عاملا سلبيا أدى إلى خسارتهم مكانتهم الحضارية. اليوم صار الكثير من العرب أسرى الماضي بأعلامه وأحداثه التي كانت سببا مباشرا في تخليهم عن ناصية العلم والمعرفة والحضارة ودخولهم في عصر الظلمات مرة أخرى.
وما أراه اليوم، واحتكاما إلى الأحداث التي يمر بها الشرق الأوسط والخطاب الذي يسود إعلامه، هو التشبث بالماضي واجتراره بسلبياته وربط مصير الحاضر بسلبيات الماضي، بدلا من التعامل مع الحاضر وتطويعه وتطويره كي يكون نقطة مضيئة أخرى تساعد العرب على تخطي الصعاب، وتمكنهم من امتلاك ناصية العلم والمعرفة والولوج في عصر المدنية والحضارة من أوسع أبوابها، مستنيرين بالنقاط المضيئة من تاريخهم ومغادرين لكل ما يشكل عائقا في تطور حاضرهم ومستقبلهم.