العنف الأسري ملف ضائع!
من وسط العاصمة الرياض وبجوار أكبر المؤسسات المركزية لصناعة القرار والتأثير في المملكة، تستنجد سيدة سعودية لإنقاذ بناتها من براثن أب غير سوي قتل طفليها السابقين وعاد لممارسة الفعل ذاته مع المتبقين.
هذه واحدة من صور مآسي العنف الأسري المتزايد التي تملأ صفحات الصحف بشكل أسبوعي دون حلول جذرية، وفي أذهاننا ضحايا كُثر قتلوا بطريقة بشعة دون تدخل حاسم، ومَن منا لا يتذكر قصص: رهام، غصون، راكان، ولمي، أحمد، مهند، وغيرهم من الأبرياء الذين خسرناهم ونتحمل كمجتمع وكمؤسسات حكومية واجتماعية وزر التقصير تجاههم وتجاه من بعدهم.
العنف الأسري موجود لدينا مثل كل المجتمعات ونسبته وصلت بحسب الإحصائيات في 2011 إلى 45 في المائة من الأطفال معنفين، وهروب أكثر من 1400 فتاة من منزل الأسرة خلال عام واحد، ورصدت أكثر من 26.6 في المائة من قضايا الإهمال، و22.8 في المائة من قضايا سوء المعاملة النفسية للأطفال، إضافة إلى 12.2 في المائة من سوء المعاملة الجسدية.
تدور قضايا العنف الأسري في دوائر مفرغة بين المحاكم، وأقسام الشرط والشؤون الاجتماعية، وهيئات التحقيق والادعاء العام، وجمعيات حقوق الإنسان، وأحيانا إمارات المناطق، لكن النتائج ضعيفة وغير كافية لحماية مزيد من الضحايا.
وزارة الشؤون الاجتماعية تعتبر خارج الحدث وإدارة الحماية الخاصة بها مترهلة وبرامجها ضعيفة، ولا تتناسب مع دورها كوزارة معنية بهموم المجتمع، وضعف الحماية في الوزارة امتداد لحالة الضعف التي تعيشها الوزارة أخيرا، وسبق لي أن كتبت عنها مقالا خاصا قبل شهرين.
ويكفيها فشلا مطالبتها الضحايا بإرسال ''فاكسات ''تفصيلية بالحالة متناسية أن كل الوزارات والهيئات الاجتماعية في العالم لديها خطوط ساخنة متصلة بالجهات الأمنية للتدخل العاجل، وإرشاد الضحايا وحمايتهم قبل وقوع الجريمة.
أما المحاكم فتتحمل جزءا كبيرا من التقصير بتأخرها في إنشاء ''المحاكم الأسرية''، وغياب المختصين الذين بإمكانهم أن يساندوا القضاة في تحليل أبعاد المشكلات الأسرية المعقدة، وتحليل الدوافع النفسية لارتكابها، ما يعطي أبعادا أخرى للحكم النهائي بعيدا عن الصورة النمطية، التي أعادت كثيرا من القضايا للمربع الأول.
الجهات الأمنية تتحمل كثيرا من الأعباء، لكن بشكل عام هناك ضعف في الآليات، وغياب الرؤية لدى بعض الأقسام الأمنية، وهناك أقسام نأت بنفسها عن التعامل مع قضايا العنف الأسري باعتبارها قضايا عائلية، وهناك أقسام اكتفت بإحالتها للمحاكم دون تمحيص أو تصنيف، وقد قرأت أخيرا أن وزارة الداخلية وجهت بإحالة قضايا العنف الأسري إلى هيئات التحقيق والادعاء العام ليتم التعامل معها مثل كل القضايا الأخرى، ومن ثم إحالتها إلى القضاء، لكني لا أعرف مدى تفعيل مثل هذا التوجيه والتعامل معه بوعي كافٍ لإنقاذ المزيد من الضحايا.
ومع هذا التشابك بين الجهات الذي قد يسهم في إطالة أمد بعض القضايا ويعطي فرصة لغير الأسوياء بارتكاب المزيد من الجرائم، بقيت الاجتهادات الفردية التي تقوم بها ''جمعية حقوق الإنسان، أقول: الجمعية وليست ''هيئة حقوق الإنسان'' التي تعتبر مجرد ضيف شرف لكثير من قضايانا الاجتماعية.
ولهذا تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في ملف العنف الأسري.
وأجد في وزارة الداخلية بما تمثله من ثقل إداري واحترام اجتماعي أملا كبيرا في تبنيها لمعالجات جذرية بالتعاون مع الجهات الأخرى،
وقد يتطلب الأمر إنشاء برنامج وطني لمكافحة العنف يركز على التوعية الأمنية قبل وقوع الجريمة، ونحتاج معه أيضا إلى خطوط ساخنة للاتصال بها حين تدعو الحاجة، وللقائمين عليها حق التدخل الفوري بقوة النظام لإنقاذ الضحايا.
وربما نحتاج أيضا إلى إنشاء إدارة فاعلة لرصد ومتابعة قضايا العنف الأسري تعمل بالتعاون مع الجهات الأخرى، مثل وزارة الصحة ووزارة التربية، مع الاستمرار في تكثيف البرامج التأهيلية والتوعوية.. فأطفالنا ثروات المستقبل ويستحقون التضحية بالكثير لأجلهم.