الأسمنت.. أرباح رمادية بين وضوح الرؤية وضعف التنفيذ
جاء القرار الملكي برؤية واضحة في فهم وتشخيص حالة أزمة الأسمنت وحتى اقتراح الحلول لمعالجة الأزمة، ولكن سرعان ما دخل الموضوع دهاليز وزارة التجارة والصناعة التي خرجت بقرار يوحي بأن الإشكالية في إدارة المخزون لمدة شهرين. صورت إشكالية اقتصادية وكأنها مشكلة إدارية بسيطة سيتعامل معها الوقت لتفادي سياسة واضحة وتكاملية. انتهت اجتماعات بين مصنعي الأسمنت والوزارة بسياسة مخزون تكتيكية ليست في صلب الموضوع على الرغم من دور المخزون في الطلب الموسمي، وكذلك إضافة حق الاستيراد في وقت قد لا يكون الاستيراد مجدياً دون دعم، كما ورد في التوجيه السامي. لعل السؤال الرئيس هو: ما سر تلك الفجوة بين الرؤية الوطنية والفقر التنظيمي؟ أسرار الفجوة تأتي في فجوة أخرى، فهناك فجوة كبرى بين السعر الذي يدفعه المستهلك والسعر الذي يُدفع للمصنع. هذا الفرق يذهب إلى الناقلين والموزعين، وهؤلاء في جزء مهم منهم من النافذين في شركات الأسمنت ـــ فهناك فرق بين القائمين على الشركات من ملاك وإدارات وبين الشركات التي لم تنمُ أرباحها بما يتماشى مع الزيادة في الأسعار. فنظراً لارتفاع الطلب هناك أرباحٌ مجزية قد تكون أفضل من أرباح صناعة الأسمنت قياساً إلى الجهد والمخاطر والاستثمار في رأس المال.
تفصيلياً يُباع الأسمنت السائب "نحو 80 في المائة من هذا النوع" بسعر 240 ريالاً للطن بينما يُباع للمستهلك بنحو 280 وأحياناً أكثر من 300 ريال، بينما يكلف إنتاج الكيس بين 6 و6.5 للكيس الذي يُباع من المصنع 12.5 ـ 20 ريالاً للكيس حسب الطلب في المنطقة والموسم تكاليف النقل والتوزيع. هذه الصورة تعكس حالة الطلب العالية بسبب النهضة العمرانية في السنوات القليلة الماضية، وبالتالي فإن الطلب أعلى من قدرة المصانع القائمة. شركات الأسمنت تطالب بمزيد من التوسع لتلبية الطلب وبالتالي من الوقود المدعوم (يُباع الوقود الخام بسعر خمسة دولارات، بينما سعره العالمي 100 دولار. تبلغ تكلفة هذا الدعم نحو مليار ريال في الشهر. هذه الصورة تجعل الصناعة جاذبة للتوسع، ولذلك تم الترخيص بمزيد من المصانع. لا بد من الإشارة إلى الحاجة إلى تفكير شمولي يتعامل مع النمو الدوري "خاصة أن المملكة تعيش فتره عالية من المصروفات الحكومية" في القطاع واستفحال استهلاك الطاقة في المملكة دون سياسة طاقة واضحة والحاجة إلى صناعة وتجارة أسمنت شفافة وتنافسية وذات قدرة استيعابية اقتصاديا في المدى المتوسط.
جوهر الإشكالية أن هناك فجوة بين الطلب والعرض مما يضغط على السعر وشركات أسمنت تطالب بمزيد من الدعم "ما أحلى الدعم الحكومي والتشكي حينما يقل" وحكومة ترغب في المزيد من الرفاه، وقائمون على قطاع طاقة مدركون مدى التكلفة المجتمعية والطبيعة الدورية لقطاع الإنشاءات وأخيراً مستهلكون بعيدون عن الاستحقاقات الاقتصادية. حينما تتشابك هذه المسائل يصعب تفكيكها وغالباً لا يرضى أحدٌ بالحلول وتختلط التحليلات والتقدير مع الرغبات الصادقة مع الانتهازية وتعظيم الاستفادة من الدعم تحت أنصاف حقائق أحياناً.
ما الحل؟
الحل المثالي يشجع المنافسة ويفصل بين الصناعة من ناحية والنقل والتوزيع من ناحية أخرى. يجب أن يكون الحل تدرجياً وجزئيا إلى أن نصل إلى نقطة تعادل صحية في المدى المنظور. علينا السماح بالاستيراد الذي لا يوفر أسعاراً تنافسية مع المنتج الداخلي إلا بالدعم كما تضمن القرار الملكي، ولذلك علينا الحرص في توظيف الدعم الحكومي، ثانياً إيقاف أي زيادة في التصنيع عدا مَن سبق ورخص لهم وتعجيل التنفيذ لهم، خاصة أن التوسّع في الصناعة لا يتعامل مع الطبيعة الدورية والأزمة الحالية، ثالثاً دراسة سريعة وتنفيذ للفصل بين الصناعة والنقل والتوزيع، فهذه صناعات مختلفة، رابعاً منع أي تصدير للأسمنت في ظل حجم الدعم الحالي، خامساً السماح لشركات الأسمنت برفع الأسعار تدريجياً فلم تعد الشركات قليلة، وأخيراً النظر في تقليص الدعم تدريجياً لرفع درجة الكفاءة في الصناعة، فمثلاً هناك شركات لديها مصانع قديمة عالية الاستهلاك في الوقود.