عيونٌ فوق الجماجم
.. رؤساء المنظمات الحكومية الكبرى كالوزارات وأمثالها، يجب أن يكونوا قادة، لا مديرين. قادة يقررون الرأيَ الصائب ويدرسونه ثم يعملون على تطبيقه، وكلما قلّ رجوع الوزير أو رئيس المصلحة الكبرى لفوق، عنى ذلك ثبات الشخصية، وعمق الرؤية، والجدية في النظر لمهمته ومسؤولياته، والعكس صحيح. وهنا يكون الفرق بين أن يكون المسؤول الكبير مديرا تنفيذيا، أو قائدا فعليا فوق هرم منشأته، يدير جموع البشر لديه، وتوظيف عقولهم برؤاها وتخصصاتها واهتماماتها المختلفة لتنفيذ الخطة التي يجب أن يكون هو الفهمُ الرئيس لها، ضمن خطة التقدم العام للأمة، ولا تكون خطة موضوعة، أو مفاهيم معينة، أو ما يتخيل أن عليه أن يعمله للإرضاء. العامل تحت مظلة الإرضاء لا يضيف شيئا، ولا يمد جسرا، وسيعمق حفرة يقف عليها.
القائد مَن يقنع من فوقه والجمهور العريض الذين يخدمهم، والموظفين العاملين معه بأهدافه وخططه للوصول للأهداف.. ثم يأخذ الزمامَ ثابتا واثقا، متيقنا أنها مهمته وحده، فهو قبطان السفينة، وهو من يعرف ظروف الأنواء وتقلبات البحر، لا من يقف بعيدا من أي مكان، وأن مسؤولية كل السفينة ومن عليها إنما مسؤوليته هو وحده.. وإن تلمّس ما يريده أو ما يظن أنه يريد ممن وضعه، فهنا لا يضيف جديدا، وإنما هو فكر آخر سكن رأسه ومفتاحه ليس لديه.. وليتذكر أن المسؤولية بهذا الوضع لا تعني أنه لن يُساءَل عنها. وبالتالي، إن أي منطق بسيط يقول: ما دمتُ سأساءَل في كل الأحوال، فيجب أن أُساءل على شيءٍ قررّته أنا وفعلته أنا، أو أمرتُ به أنا. إنه منطق القائد لا منطق المدير!
إن القيادة لا تعني تخصصا، بل فكرا عريضا شاملا، يستطيع فيه القائد أن يشغل المتخصصين كل في مكانه، كمن يركب أجزاء ماكينة لعربة، فيضع كل مسمار، وقطعة وسلك في مكانه، فتدور الماكينة بشكل ناعم ويُسْر لتحرك كامل العربة للأمام. كل وزارة كل مصلحة، حتى كل شركة كبيرة خاصة هي عبارة عن عربة، لا يمكن أن يقول لك أحد كيف تسيرها، وأي طريق تسلكه وإلا كنت مجرد سائق للعربة ليس إلا.. وسيلومك المالك إن ضيعت الطريق أو خربت العربة، أو وقعت في مطب لا تستطيع العربة منه خروجا.. إذن المسؤولية موجودة، ولا يقبل عاقل أن يساءل إلا على عمل أو خطة عرفها وأقرها أو وضعها من الألف إلى الياء.
من مهمة القائد أيضا أن يركز على الخطط المستقبلية ولا يترك حاجات الناس الحاضرة والملحة، وهنا القائد يقع بين فكي التخطيط المستقبلي والتصدي لمشاكل تتفاقم في الحاضر، فيحسن معالجة الحاجة الآنية والملحة، وهو يضع خطة المستقبل!
كم من وزير أو مدير عام مصلحة، مضوا.. فمضوا عن الذاكرة، وذلك لأنهم لم يكونوا يقودون بل كانوا يديرون، لا يجرؤون على حل الأمور من عندهم، فيرجعون للأعلى، والمفروض أن يريح من هم في الأعلى ليعالجوا مواضيع أكبر وأهم.. إنهم مخلوقات أعينهم فوق جماجمهم فلا ينظرون إلا للأعلى ولا يستطيعون النظر لا يمينا ولا يسارا ولا تحت!
القائد يعترف به الناس ثقة بعقله وبأثره الشخصي في احترام الناس وتقديرهم، فالناسُ لديهم حساسية صادقة كبرى لمن يعمل من أجلهم ويحب أن ينفعهم ويرفع من جودة حياتهم.
مشاكلنا كبيرة، صحيح، ولها حلول بالتأكيد، ولكن الحرص على الأمان الشخصي، وقلة الجدية الحقيقية في البذل الحقيقي، والحرص المظهري أو الاحتفالي أو الدعائي أو التبريري يضيّع طريقَنا.. كلنا!
وللأجيال الجديدة، إما أن تكونوا قادة بالضمير الذي يخاف الله في الناس، ثم القوة في إثبات النفس وإدارة العمل، مستعدين للمساءلة العادلة، أو كونوا تأييدا مع من تبرزونه يوما قائدا لكم في عملٍ أو جهةٍ أو مهمةٍ، أو حتى.. حُلمٍ وأمنية.