رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


اسكتْ أحسن لك

تأملات الإثنين
.. قمت فجرا وإذا صوتي بلا صوت.
عارضٌ مؤقتُ، تنبيهٌ من مؤشرات العمل الحيوي لترتاح أجهزتنا الداخلية، مثل القاطع الكهربائي الذي يحترق ليقطع التيارَ الفائق الجهد الذي سيسبب ضررا لو استمر. تنسى معدتك حتى تؤلمك فتتذكرها، وتتذكر أهميتها، وهنا يكون التنبيه قويا كمن يهزك ليوقظك، فتبدأ بتقدير عملها وتدرك أن لها عليك حقا. والقلب النابض طيلة العمر لا يتوقف، ننساه ولا نشعر به إلا عندما تشتد ضرباته أو تخفت تلك الدقات، فننتبه بخضة إنذارية تقول: انتبه، أنت تدخل الشحوم في مسالك القلب فتسده .. فيلهث فوق طاقته ليعوض الانسداد وهنا قد يتعب ويعلن التوقف .. وتبدأ تغير نظام غذائك وحركتك وحتى نفسيتك وإلا ...
هذا ربما ما حدث لحبالي الصوتية، فكان أن صرت أستمع أكثر، وأعيد اكتشاف عناصر الواقع حولي التي لم أتنبه إليها وأنا غارق في الثرثرة. على أن صمتي لم يكن انكتاما كاملا، ولكن صعوبة في الحديث مع جشّةٍ عميقة تلوي أعناق الحروف فيخرج الحرفُ دائخا يتساقط من اللسان، فأبقيها مرتاحة بداخلي.
مع الصمت ستجد أنك ركبت مركبا من مراكب الاكتشاف لا لتكتشف الواقعَ ولكن لتعيد اكتشافه، وتتنبه لأمور ومناظر وعناصر مهمة لم تكن لتتنبه لها في مرحلة الضجيج والكلام. أتذكر شيئا من قصص الاكتشاف الأوروبي - وهم يسمونه اكتشافا، وما يكتشفونه موجود قبل وصولهم، فهو إعادة اكتشاف، فالهنود الحمر وصلوا لأمريكا من جزر البلوينيز قبل آلاف السنين من وصول كريستوفر كولومبوس لسواحل شمال أمريكا الجنوبية. وهناك حادث غيّر تاريخ ثلاث دول، فقط لأن الضجيج منع من الملاحظة. كان الهولنديون أطول باعا في أجهزة الملاحة وأقوى عزما من الإنجليز والإسبان والبرتغاليين والفرنسيين، وتأكدوا باستنتاجاتهم الرياضية والملاحية أن هناك أرضا ماردة تقع في الجرف الجنوبي الشرقي العظيم للمحيط الهادي، وراحت حملة اكتشاف كاملة التجهيز، وقطعوا المساحات الهائلة بالزرقة اللانهائية. في ليلة من الليالي أقام طاقمُ المركبِ حفلاً ضاجاً احتفالا بمناسبةٍ هولنديةٍ، وكان الكشّافُ فوق السارية قد سدّ أذنية بقماش ليركز على كل صغيرة وكبيرة في البحر العريض. فجأة على بعد عشرة أميال فقط رأى ساحلا كعملاق ينام على البحر، ونادى: "بر.. بر". ولكن لم يسمعه أحد، واتجهت الحملة عائدة شمالا حتى ضفاف جزيرة صباح الماليزية ثم ملقا. بعدهم جاء الإنجليز الذين بدأوا من الخرائط الهولندية ووصلوا للساحل الكبير، وكان الساحلُ من القارة التي عرفت بأستراليا. تصور لو أن الهولنديين صمتوا واستمعوا لنداء الملاح على السارية يقول لهم: "بر.. بر"، وفتحوا أستراليا، كيف سيكون واقع الدول الثلاث الآن؟
الصمتُ خُلع عليه رداءٌ طقسيٌ وتقديسيٌ واحترامٌ تقليديٌ في كل الحضارات، فالسنسكريتيون القدماء وهم من جاء بأول عقيدة في التاريخ - الهندوسية، كانوا يجتمعون فوق ذرى الجبال ويطنطنون، ثم اعتقدوا في الإله "شيفا" الذي كان الصمتُ والإصغاء لعناصر الروح من خلال عناصر الكون من تعليماته. "شيفا" ما قصّر الحقيقة، فقد أنتج أكثر من 100 ألف "إله".. والهندوسية تعطي الخيار لتابعيها لصنع "إلهٍ" لكلِّ منهم كيفما يشاءون. وتعرفون أن "بوذا" أقسم أن يصمت حتى يجد التنوير، وتحت شجرةٍ مكث صامتاً لأيام وهو ابن الملك الذي كانت أوامره تهدر فيجري الخدمُ ملبّين .. ثم جاءه التنوير وسُمِّي بوذا أي "الرجل المستنير"، لذا في التبت الصمت صلاة. والإرث العربي والإسلامي مليءٌ بالأقوال والأمثال تأييدا لمنافع الصمت.
في عام 1960 في أكبر مراصد أمريكا كان شاب اسمه "دريك"، وستجد في آداب المراصد الفلكية أن ما يسمى بِـ "المفهوم الأصلي لدريك" شائعا، وهو كصاحبنا الملاح الهولندي يتأمل بصمت في مرصده، الفضاء السحيق مع حواجز تمنع مرور الصوت بغرفة المرصد، والتقط نجما بعيدا في آخر مجرتنا فعرفنا حدودها - مجرتنا فيها 400 مليار نجم، ولتعرف حجم النجوم فأصغر نجم قزم لا يُرى بين حجوم النجوم الأخرى هو الشمس، مجرتنا تتناثر بمساحة لا يسعها العقل بأكثر من 100 ألف سنة ضوئية .. تصور! وتتجلى العظمة اللانهائية لكوننا المعروف لما نعلم أن فيه مليارات لا تحصى من المجرات بحجم وأكبر من حجم مجرتنا. لذا نبع السؤال الزمني: هل نحن وحيدون على الأرض؟
إذا قال لك أحد: "اسكت أحسن لك!" فشُدّ على يديه شاكرا، وإن وضع كاتبٌ اسمه نبيل المعجل كتابا بعنوان "يا زينك ساكت" .. فاعرف أنه تعب من الكلام، ووفر عليك الكلام .. كي لا تنتقده!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي