إني لا أظن!
.. في الرواية الإسبانية الكلاسيكية التي كتبها "سرفانتس"، وتقرأها في جزأيها الأول الذي ظهر في عام 1605، والثاني بعد عقدٍ كامل من الزمن في عام 1615 ممتعا ضاحكا ساخرا وغاضبا أحيانا، وما زال تأثيره الشخصي الإنساني نابضا حتى اليوم.
القصد العام لسرفانتس وراء هذه الملحمة الغرائبية، السخرية مما كان يسمى في القرن السادس عشر وأول السابع عشر بثقافة الفرسان، تلك الروايات المفرطة في المبالغة الخيالية بما يقوم به الفرسان من أعمال فوق مستوى البشر العاديين. وكان له أن يصنع فارسا بروايته اسمه دون كيخهوته - كما تنطق تماما بالإسبانية الأوروبية، وتنطق بخاء قوية في كوبا والمكسيك، وهاء صافية في الأرجنتين والدومينيكان وتشيلي. وتعارف العربُ عل كتابة الاسم "دون كيشوته" وما أدري من وين جابوها الصراحة! قلنا إن كيخوته كما ينطقها أهل شمال وشرق أمريكا اللاتينية هو رجل عادي من الريف أفسدت ذهنه تلك الروايات والقصص والمسرحيات التي تتنقل بالهواءِ الطلق عن أعمال الفرسان البطولية. إن كان كل العالم أو معظمه يعرف دون كيخوته، فأنا متأكد أن أكثرهم لم يسمع أبدا بذلك الرجل الظل في الرواية.. مع أنه في رأيي، بل في رأي من سيقرأ الرواية سيجد الرجل الظل الأجدر من دون كيخوته، وهو "سانكو بانزا" الذي أخذه أخونا دون كيخوته معه كخادم، فالفرسان في "ثقافة الفرسان" يجب أن يصاحبهم خادمٌ مطيعٌ يعاون الفارسَ الباسلَ العظيمَ كي يتفرّغ لأعمالِهِ وفتوحاته الكبرى .. وحتى غرامياته.
ركب "دون كيخوته" حصانه الأعجف وقد أسماه تفخيما "روسيناتي" وأشهر سيفَه الخشبي، ثم تجري القصة جذابة لدرجة أنك تدخل في عقل دون كيخوته - أو قلَّة عقلِهِ إن شئت - حين يبدأ كيخوته رحلته الكبرى لمطاردة الأشرار وإنقاذ المظلومين ونشر العدل، وهي قصص تفطس من الضحك، خصوصا بقرارات كيخوته البائسة الخرقاء وهي عبقريةُ نحسبها لسرفانتس، فشرحُ العقل المنطقي سهل، وشرح العقل الذي بلا منطق فدونه خرط القتاد. إلا أن "سرفنتس" أبدع كثيرا. ومن قبله أبداع لا مثيل له لـ "الهمذاني" و"الحريري" في مقاماتهما الأعجب في العالم كما قال "سرفنتس" نفسه ببطليهما المتلونين. المهم، طالت أعماركم، نعود لصاحبنا الذي أُلقِيَتْ عليه خيمةٌ من الإعتام، مع أنه هو الفاعل والمنقذ دوما في القصة من ورطات الفارس الأحمق، وأعني خادمه السنيور "سانكو بانزا" - وفي القصة ينعت من سيده بأقل الصفات - إلا أني أعيد له حقه فأصفه سنيورا ما عليه كلام. لماذا؟ يصف لنا "سرفانتس" بدهاءٍ بل بخبثٍ أظنه مقصودا، الفرق بين شخصيتي كيخوته بخياله الشاطح، وشخصية خادمه الذي يتميز بعقل منطقي صافٍ وحكمةٍ عملية، وبروحٍ شجاعة وقوية وصادقة، وكان هو البطلُ فعلا، ولولا تدخل سيده الأخرق، لكان أنقذه وأنقذ ناسا كثيرين من ورطاتهم. أعترفُ بأن هذا ما يجعل الرواية صورة انعكاسية وإسقاطية رائعة للطبيعة البشرية، وفيها خلط منسوج كسجادة متقنة من خيوط الفكاهة والحب - أوه ما قلت لكم عن قصص حب كيخوته، بعدين! والتعاطف والفلسفة الإيجابية وتلك المعكوسة .. فلا عجب أن صار من أكثر رواياتِ العالمِ شعبية.
نرجع لليوم الذي أكتب فيه هذا المقال، وفكروا معي رجاء، أخاف أن عقلي أيضا أفسدته كثرة القراءة مثل صاحبنا كيخوته. هل في عالمنا الاجتماعي والإداري والتنفيذي شيء مِمّا قاله السنيور "سرفانتس"، هل كان سرفانتس يقصد سلسلة الإقطاعيين البُله التي شاعت في عصره بين الإسبان والفرنسيين؟ أي أن بعض الشخصيات المؤثرة لا تملك العلمَ ولا الخبرة الكافيين، ويكون هناك دوما في الظل شخصية مظلّلة ومعتمة تقوم بكل شيء، أو لا يُسمع لها بشيءٍ حسب مزاج الرئيس.
هل في مصالحنا، في وزاراتنا، في شركاتنا الكبرى، في قوس قزح تفكيرنا العام شيء من ظاهرة السنيور دون كيخوته وخادمه؟ أي - لا قدر الله - بوضع العقول المناسبة في غير المكان المناسب؟ فتكون القرارات عكسية أو بلا خطة توقعات أو بعفو الخاطر ووليدة اللحظة؟ وتذكر: لم يعد الحصانُ هنا هزيلاً ولا السيف من خشب. وبما أن الأمور تُدار بحنكةٍ وبعد رأيٍ، فأجيب على تساؤلي:
لا.. ما أظن!