نظرة متفحصة حول نماذج "تكافل"
سيلقي هذا المقال نظرة على أهم نماذج تكافل المستخدمة حاليا بعد أن نتناول السياق العام للتأمين الإسلامي وخلفيته. من المعترف به على نطاق واسع أن التأمين يلعب دوراً بالغ الأهمية في التجارة والتمويل الشخصي. وبينما تأخذ غالبية الناس التأمين كشيء مسلم به، إلا أن كثيراً من المسلمين يعتبرون أن التأمين التجاري لا يتمشى مع معتقداتهم الدينية. وفي أواخر السبعينيات، أخذ السودان بفكرة التأمين الإسلامي أو التكافل، ولحقت به ماليزيا في عقد الثمانينيات. ورغم بطء تقبل هذا التوجه في العالم الإسلامي في البداية، إلا أن الألفية الجديدة شهدت تسارعاً في الخطى نحوه. ويرجع ذلك إلى ظهور جيل من الشباب المتعلم، وإلى سعي عدد كبير من المسلمين إلى بديل لهذه الناحية المهمة على صعيد التجارة والتمويل الشخصي.
تعهد المخاطرة
إن هذا هو ما يجعل التأمين مختلفاً عن العقود التجارية الأخرى. ويمكنني تعريف تعهد المخاطر أنه تحويل مسؤولية دفع الخسائر من شخص إلى آخر أو إلى جهة أخرى. إذن لماذا يعترض علماء الدين عليه؟ إن هذه المعارضة ترجع أساساً إلى وجود عامل "الغرر" في عقد التأمين. والغرر معناه وجود خطورة أو عدم يقين. وقد رأينا أن الخطورة السوقية أمر مقبول تماماً في الإسلام، بينما خطورة الإقراض ليست مقبولة. كما أن التعاملات التجارية بما تنطوي عليه من خطورة التعرض للخسائر، واحتمالية الربح مقبولة أيضاً في الإسلام. إذن، ما الذي يجعل تعهد الخطورة غير مقبول؟
لو تفحصنا عقد التعهد، لوجدنا أن الطرف المؤمن عليه يوافق على دفع قسط معين للطرف المؤِّمن مقابل تحويل المؤمن عليه خطورة تعرضه لخسارة مالية إلى المؤمن. وإذا تحققت هذه الخطورة أثناء سريان العقد، يترتب على المؤمن أن يعوض المؤمن عليه. ولو نظرنا إلى هذا العقد من وجهة نظر المؤمن عليه، لوجدنا أنه مقابل دفع قسط معين، فإنه قد يحصل أو لا يحصل على خدمة من المؤمن. والخدمة هنا، هي التعويض الذي يقدمه المؤمن عن الخسارة. وإذا انقضت مدة العقد دون أية مطالبة، فإن المؤمن عليه لا يسترد قسط التأمين.
ويتمثل أحد تفسيرات هذا الترتيب في أن المؤمن عليه حصل على خدمة من المؤمن، لأنه لو نشأت أية مطالبة، لتم تعويضه عن خسارته. وهناك تفسير آخر (يقدمه علماء الدين)، وهو أن هذا العقد ينطوي على عنصر عدم اليقين من حيث إن الخدمة (التعويض عن الخسارة) يمكن أن يتم أو لا يتم تقديمها.
إذن كيف يمكن التغلب على الاعتراض على هذا الترتيب في الإسلام؟ عقد مجلس الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، مؤتمراً له في مدينة جدة في السعودية في كانون الأول (ديسمبر) 1985 للنظر في جميع أنواع وأشكال التأمين المعمول بها. وصدرت عن المجلس فتوى تعتبر أن التأمين التعاوني (الذي يقوم على أساس التبرع والتعاون) مقبول في الإسلام. وبموجب المفهوم التعاوني، فإن طرفي العقد يوافقان على تأمين بعضهما بعضا ضد الخسارة. ومن ناحية فعلية، فإن المؤمن عليه هو أيضاً مؤمِّن في التأمين التعاوني. بيد أن عنصر الغرر ما زال موجوداً في هذا العقد، إلا أنه يغض النظر عنه لأن العقد أبرم على أساس المساعدة والعون المتبادلين.
1- نموذج " المضاربة" للتكافل العائلي
في نهاية مدة العقد أو عند التنازل عنه قبل ذلك، يحصل المشترك على المبلغ الذي تجمع له في حساب اشتراكه. وفي حالة وفاته، يحصل ورثته على المبلغ المحدد إضافة إلى المبلغ الذي تجمع في حساب الاشتراك المشترك. ويتولى مقدم الخدمة (مشغل التكافل) إدارة العملية مقابل حصوله على حصة من فائض التعهد وعلى حصة من الأرباح المتأتية من الاستثمارات. ولا يشارك مقدم الخدمة في تحمل أية خسائر، ولكنه يخاطر بعمله فقط. على أنه إذا كانت هناك خسائر في الصندوق المخصص لمواجهة المخاطر، يترتب على مقدم الخدمة أن يقدم قرضاً دون فائدة (قرضاً حسناً) يتعين سداده حين يعود الصندوق إلى الربحية، وقبل توزيع أي فائض في المستقبل.
إذن كيف يربح مقدم الخدمة بموجب هذا النموذج؟ إن دخله يتأتى من حصته في الدخل المتأتي من الاستثمار، ومن حصته في فائض التعهد. وهو يحقق الربح عندما يزيد هذا الدخل عن النفقات التي تحملها. لذلك، يتعين على الإدارة أن تحدد النسبة الملائمة من دخل الاستثمار ومن فائض التعهد التي يخصص له، بما يغطي نفقاته وخدمة رأسماله. ثم يوافق المشترك على هذه النسبة عند التوقيع على عقد التكافل. ويتمثل دور رأسمال المساهمين في مواجهة نفقات إدارة الشركة، وحينما يلزم، في تقديم القرض الحسن إذا حصل عجز في صندوق المخاطر. بيد أن هناك بعض الاعتراضات على نموذج التكافل هذا. ذلك أن بعض علماء الشريعة يعتبرون أن عقد المضاربة هذا غير ملائم. إذ إن الأساس الذي يقوم عليه هذا العقد هو تقاسم الأرباح، وليس تقاسم الفائض. وحقيقة أن رأسمال المشاركين (وبالتحديد الجزء الذي يمثل قسط المخاطرة) يستخدم لدفع المطالبات، معناه أن هذه العملية لا تنطوي على ربح. والإسلام يعرِّف الربح أنه الزيادة في القيمة الإجمالية للاستثمار في المشروع على رأس المال الأولي الموظف.
قد يبدو هذا للبعض اختلافاً في الألفاظ ومدلولاتها، ولكنه أمر مهم بالنسبة لعلماء الشريعة. ذلك أن مشاركة مشغل التكافل في فائض التعهد يمكن أن يزيد من اعتراضات بعض علماء الشريعة. على أن بعض العلماء الآخرين يشيرون إلى أن قسط المخاطرة تتم معاملته على أساس التبرع (منحة خيرية)، ولذلك، فإنه ينص على أن يتصرف المشغل بالفائض على النحو الذي يراه مناسباً.
2- نموذج "الوكالة " للتكافل العائلي
في عام 2003، تأسست رابع شركة تكافل في ماليزيا، (شركة تكافل إخلاص)، واستخدمت هذه الشركة لأول مرة فكرة عقد" الوكالة" ليكون بمثابة النموذج البديل "للمضاربة". وفي هذا العقد، يعمل مشغل التكافل كوكيل عن المشاركين. ومقابل الخدمات التي يقدمها، يتقاضى أتعاباً متفقاً عليها ومحددة سلفاً. ويمكن أن تكون هذه الأتعاب نسبة مئوية من الإسهام (القسط الإجمالي) أو مبلغاً محدداً.
وهناك أتعاب على الجزء المخصص للمخاطر من الإسهام (أتعاب إدارية عامة)، وأتعاب على الاستثمار الذي يستخدم فيه الإسهام (أتعاب إدارية عامة وأتعاب إدارية على الموجودات).
وفي حالة وفاته قبل انتهاء مدة العقد، يحصل ورثته على رصيد حساب اشتراكه زائداً المبلغ المتفق عليه، والذي يتم تحديده في بداية كل سنة أو شهر. وإذا كان هناك عجز في الحساب الخاص للمشتركين، يقوم المشغل بتقديم " قرض حسن" يتم سداده قبل توزيع أي فائض في المستقبل.
إذن كيف يربح المشغل بموجب نموذج التكافل هذا؟ يتم دفع قسط المخاطرة بانتظام من حساب الاشتراك المتراكم أو المجتمع. وهنا أيضاً، يتحمل المشغل وحده نفقات الإدارة ويتم تعويضه عن طريق أتعاب الوكالة. لنقارن هذا العقد مع نموذج "المضاربة" السابق ذكره، والذي يتأتى فيه دخل المشغل من الفائض ومن أرباح الاستثمار. وهذا يعني أنه إذا لم يكن هناك فائض أو ربح، فإن عقد المضاربة لا ينتج أي دخل للمشغل. هذا، بينما في عقد الوكالة، فإن هناك بعض الدخل دائماً، لأن أتعاب المشغل مبنية على رأس المال وليس على الدخل.
ومن ناحية عملية، فإن العلماء يقضون بأنه إذا قدم قسط المخاطرة على سبيل المنحة أو الهبة إلى الحساب الخاص بالمشترك (صندوق المخاطر)، فإنه يكون عقداً لمصلحة أحد الطرفين فحسب، ولا ينطبق عليه حكم الغرر. إذن، يدور النقاش حول ما إذا كان ينبغي إعادة الحسابات الخاصة إلى المشتركين أو دفعها للمشغل كأتعاب أداء.
وفي تعاملات شركة" تكافل إخلاص"، لا يأخذ المشغل إلا نسبة مئوية صغيرة من فائض التعهد، ويعتبر ذلك أتعاب معالجة وليس مصدر دخل كبير متوقع للمشغل. أما فائض التعهد الذي لا يأخذه المشغل كأتعاب، فيعطي في العادة إلى الجهات الخيرية ولا يعاد إلى المشتركين، إلا إذا كان المبلغ كبيراً.
ولم يقتصر تطوير التكافل على ماليزيا وحدها. ويستحق السودان الثناء لأنه أول من استخدم التكافل، بينما استُخدم نموذج الوكالة فعلياً لأول مرة في السعودية، وذلك من جانب قسم "تكافل التعاوني "في بنك الجزيرة. على أن ماليزيا تستحق الثناء بسبب مساعدتها في تأسيس نظام التكافل في كثير من البلدان الإسلامية الأخرى، مثل نيجارا بروناي دار السلام، وإندونيسيا، وسريلانكا، والسعودية.