هيكلة التمويل الإسلامي.. رؤية ائتمانية

هيكلة التمويل الإسلامي.. رؤية ائتمانية

ثمة اعتقاد سائد أن التمويل الإسلامي المقدم من المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية للشركات والمؤسسات والأفراد، هو مجرد بدائل شكلية وضعت لجعل العملية التمويلية تنتقل من الحرام إلى الحلال، دون وجود أية فروق في أصل العملية، والحقيقة أن أصل هذا التصور- غير الدقيق - يعود لكون التمويل الإسلامي الموجود في جميع المصارف والنوافذ الإسلامية، يعتمد بشكل أكبر على صيغ المداينة المرتبطة بالزمن، ما جعل البعض يعتقد أنه لا يُخرج المصارف الإسلامية من الإطار العام للمصرفية التقليدية القائمة على الفائدة، وتبعا لذلك فإنه لا يحقق الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي، والتي تقوم على المشاركة في الربح والخسارة، ما نتج عنه في أقل الأحوال مساواة للمنتجات الإسلامية بعضها مع بعض ومع التقليدية على حد سواء.
في الوقت الذي يرى فيه آخرون وهم المدافعون عن المصارف الإسلامية أنه ليس بالضرورة أن تحقق المصرفية الإسلامية في الفترة الحالية - على الأقل - جميع الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي المتكامل، باعتبار ذلك غاية مثلى تحتاج إلى استراتيجية طويلة المدى، ويكفي أن تكون تلك المصارف في الوقت الحالي قادرة على تشكيل نواة لتحقيق اقتصادي إسلامي متكامل وفقاً لمنتجات تمويلية واستثمارية لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية من جهة وتحقق الغايات التمويلية والاستثمارية التي تقدمها البنوك التجارية لعملائها من جهة أخرى. كما أن هذا الرأي كذلك يرى أن المنتجات الإسلامية حققت كثيراً من غايات ومقاصد الشريعة الإسلامية من خلال عدة أمور لعل من أبرزها التوجيه نحو التجارة في السلع بدلا من الأثمان مما ينتج عنه تحريك لعجلة الاقتصاد-على أقل تقدير من الناحية النظرية-، وإلغاء مبدأ الفائدة المتراكمة، الناتجة عن التعثر في السداد، وغيرها من الأمور الجوهرية في صلب المعاملات المصرفية الإسلامية والتي تتماشى مع روح الدين وجوهره بالابتعاد عن الغرر والغبن وبالامتناع كذلك عن التمويل أو الاستثمار في السلع المحظورة شرعا مثل الخمور والتبغ وغيرها.
مزايا ائتمانية وتسويقية وتشغيلية
ويبدو أن النظرة المغلوطة و التي تحدثنا عنها ابتداء هي السبب الذي قاد الكثيرين، بمن فيهم كذلك بعض القائمين على المصارف و النوافذ الإسلامية، بمعاملة المنتجات التمويلية الإسلامية وفقا لرؤى تقليدية بحتة كبديل فقط دون أية امتيازات أو خصائص إضافية عن المنتج الأصلي (التقليدي).
و إذا كانت تلك هي النظرة العامة للموضوع من زاويتيه الاقتصادية والأخلاقية، فإن النظرة الائتمانية تبعا لذلك تأخذ وجها مختلفا أيضا، فالمنتجات التمويلية الإسلامية هي منتجات مستقلة جاءت بخصائص وربما مزايا ائتمانية لم تكن متوافرة في مماثلاتها التقليدية، والنظرة التقليدية لها تلبسها لباسا لا يناسبها، مما يفقد المستفيدين من خدماتها كثيرا من خصائصها وامتيازاتها، فإذا ما استثنينا عمليات التورق وهي الصيغة الأكثر تقاربا مع القروض التقليدية، فإن جميع العمليات الإسلامية الأخرى كالمرابحة مثلا أو الإجارة أو المشاركة أو الاستصناع أضافت ميزة ائتمانية للصيغ التمويلية بشكل عام لم توجد في التمويل التقليدي أصلا، وهي القدرة على معرفة طرق استخدام التمويل الممنوح للعميل، ومدى تماشيه مع الغرض من الحد الممنوح أساسا. وتلك ميزة إضافية للتمويل الإسلامي تمنح المصرف الممول تلقائيا القدرة على مراقبة عميلة عبر معرفة طرق الاستخدام ومدى توافقها مع أهداف الحد الممنوح له من عدمه. وباستطاعة أي متخصص في عمليات التمويل أن يتلمس الكثير من المزايا الائتمانية والتسويقية والتشغيلية لعمليات التمويل الإسلامي، لكل صيغة على حدة، فالإجارة على سبيل المثال أعطت البنك الممول الحق بالاحتفاظ بملكية الأصل محل الإجارة طوال فترة التمويل مما يعني أن مخاطر التمويل تقلصت بشكل كبير مما يؤدي بطبيعة الحال إلى تقليص السعر على العميل، وهذه ميزة تنافسية تعود بالنفع على الجميع. أما الاستصناع وهو صيغة من الصيغ الأقل استخداما، فهو صيغة مرنة إلى حد كبير تقلص كثيرا من العمليات التشغيلية الناتجة عن منح العميل عدة قروض تقليدية أو حتى تورقات إسلامية بغرض تمويل مشروع معين، إضافة إلى أنها تقدم أرباحا مرتفعة – نسبيا - للمصرف الممول، وتمنح العميل ثقة واطمئنانا أكثر نتيجة الدراسة البنكية للمشروع المزمع تمويله.
نعود مرة أخرى إلى عمليات التورق والتي تشكل ما يقارب 70 في المائة من التمويل الإسلامي في المملكة، والتي (أجيزت) من قبل اللجان الشرعية في الأساس كاستثناء و حل تمويلي لعمليات تمويل رأس المال العامل للشركات، وبعض عمليات التمويل الاستهلاكي الفردي والتي لا يمكن تغذيتها بطريقة أخرى غير النقد، لنراها قد أضحت أداة تمويلية بل أصبحت هي الأصل، وغيرها من الصيغ هي الاستثناء، مما عزز تلك النظرة التقليدية التي تحدثنا عنها في بداية الأمر حول المصارف الإسلامية باعتبارها تحاكي بشكل كبير نظيرتها التقليدية. والحقيقة أنني لا أجد سببا لهذا الإفراط في استخدام عمليات التورق سوى أنها الطريقة الأقرب للمصرفية التقليدية وهي الطريقة الأسهل للفهم من قبل القائمين على المصارف بشكل عام وفقا لرؤاهم التقليدية. فالإعراض عن جميع المنتجات الإسلامية بخصائصها ومزاياها الائتمانية والتسويقية واختزال كل تلك المنتجات الإسلامية في منتج واحد، يفقد البنك والعميل على حد سواء الكثير.
وهذا ما يقودنا إلى القول إن عملية هيكلة التمويل الإسلامي، وهي ما يقصد به وضع حدود وصيغ معينة للتمويل الإسلامي لكل عميل على حدة، يجب أن تخضع لطرق ومعايير أخرى لا تنطبق على التمويل التقليدي، وهو الأمر الذي ربما ما لم يفطن إليه كثير من مستخدمي هذه الصناعة الحديثة في المملكة. وقد أحسنت بعض البنوك الإسلامية أخيرا عندما وضعت قيوداً ونسباً معينة لأحجام عمليات التورق المقدمة للشركات من حجم التمويل العام لكل عميل (شركة)، إحساسا منها بذلك الخطر الائتماني المقبل من تركيز محفظة التمويل على عمليات التورق على حساب عمليات التمويل الإسلامي الأخرى كالإجارة والمرابحة.
مستقبل التمويل الإسلامي
وأخيرا فإن الخطوات التي خطتها المصرفية الإسلامية هنا في المملكة في السنوات القليلة الماضية في مجال التمويل بشكل خاص، حتى وصل حجم التمويل الإسلامي لما يقارب 60 في المائة من إجمالي حجم التمويل في المملكة، هي محل إعجاب وتقدير كبيرين. إلا أن المحافظة على هذا النمو وهذه الخاصية التنافسية القوية في مواجهة البنوك المقبلة من الخارج والتي سيأتي بعضها محملا بأدواته التمويلية الإسلامية المتطورة يحتاج إلى عدة عوامل لعل من أبرزها تطوير جودة المنتجات القائمة من جهة وتفعيلها من الجهة الأخرى، وذلك عبر توسيع دائرة الفهم المصرفي الإسلامي لمسوقي تلك المنتجات ومستخدميها على حدٍ سواء، إضافة إلى أن تطبيق تلك المنتجات بشكلها السليم والصحي والمتوازن، وفقا لدراسات ائتمانية وتسويقية مناسبة هو أمر حساس وفي غاية الأهمية، و الله ولي التوفيق.

[email protected]

الأكثر قراءة