الميزانية ورؤية جرد حساب
أكتب هذا المقال قبل صدور الميزانية بيومين وسينشر بعد صدورها بيوم واحد, نظرا لظروف النشر, التي من المقرر حسبما نشرت "عكاظ" السبت الماضي أن تعلن الإثنين المقبل (أمس), وهو ما سيجعل التعليق عليها قبل صدورها رسميا غير مستساغ ولا منطقيا حتى لو كان هناك شبه تأكيد من أنها ستكون ميزانية خير أيضا, إن شاء الله, إلا أن صدور الميزانية الجديدة يعيدنا إلى عام مضى, وبالتحديد إلى جلسة مجلس الوزراء التي أعلنت فيها ميزانية السنة المالية الماضية والمنقضية مع صدور الميزانية الجديدة, التي حفلت, كما نذكر, بخير كثير من خلال إقرارها اعتمادات مالية وفيرة لكل الوزارات والمؤسسات التابعة للدولة, إضافة إلى توافر فائض مالي مكن من تسديد جزء من الدين العام وبما خفف من أثقاله علينا.
في تلك الجلسة خاطب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز, وفقه الله, كما نذكر, الوزراء بقوله لهم "لا عذر لكم بعد اليوم", وقصد بذلك أن الميزانية وفرت لهم كل الاعتمادات المالية التي طلبت بما لم يعد ممكنا التعذر بقلة المال, وحثهم على سرعة الإنجاز وتنفيذ المشاريع الجديدة وتحسين وتطوير ما هو قائم بعد أن اعترى كثيرا منها الترهل بسبب قلة اعتمادات الصيانة وضعف الأداء لعدم التشغيل الكامل, فقد من الله علينا خلال العامين الماضيين بالذات بدخل كبير نتيجة ارتفاع أسعار النفط إلى ضعف تقديراتنا وتوقعاتنا, وهو ما مكن من تعويضنا عن تلك السنوات العجاف بارتفاع أرقام الميزانية, خصوصا العام الماضي, وتوفير الاعتمادات المالية اللازمة والكافية لإنجاز كل ما هو مطلوب ومفترض.
وبناء على ثبات واستمرار ارتفاع سعر برميل النفط بما سيجعل دخلنا هذا العام, إن لم يكن أكثر, فلن يقل عن دخل العام الماضي, فإنه يتوقع وبشكل مؤكد أن تشهد ميزانية هذا العام زيادة في الإنفاق عبر اعتمادات جديدة لكل الوزارات والمؤسسات الحكومية. وهنا لا نريد أن نحتفي بأرقام الميزانية الجديدة وننشغل بها عن متابعة الميزانية الماضية وتقصيها كيف صرفت وأين صرفت وماذا أنجز؟ وعلينا أن نسترجع قول خادم الحرمين الشريفين للوزراء بأن لا عذر لهم اليوم, وترجمة هذا القول يجب أن تكون من خلال عملية جرد حساب لكل وزارة ومؤسسة ليس للتأكد من صرف كل اعتماداتها فقط, بل لقياس مقدار النوعية والجودة في مشاريعها بما يخدم التنمية الحقيقية والدائمة. وهذا يقتضي سؤال كل وزارة ومؤسسة عما أنجز من مشاريع وما هو جار إنجازه حاليا وبما يتوافق مع الاحتياجات الحقيقية. وللإنصاف فنحن لا نطالب بأن تصلح كل أمورنا في سنة واحدة, فهناك مشاريع يتطلب إنجازها أكثر من عام, إلا أن المفترض أن نشاهد بدايات مشجعة وحلولا واضحة, وهو ما أخشى أن أقول بعدم وجوده.
المواطن ومع تدفق كل هذا الخير من ناحية, وحرص ولاة الأمر, وفقهم الله, من ناحية أخرى, على استثمار كل هذا الدخل الوفير بما يخدم تنمية الوطن ومصلحة المواطن, ينتظر أن تنعكس خيرات الميزانية على حياته ومعيشته العامة بأن يلمس تغيرا في كل الخدمات المختلفة, فخلال العامين الماضيين اللذين تميزا بوفرة الدخل وضخامة الاعتمادات المالية والإعلان عن تنفيذ مشاريع مختلفة لكل القطاعات, كان ينتظر ويتوقع أن نشهد بدايات على الأقل في تطور وتحسن كثير من الخدمات التي قل أداؤها بسبب ما تعرضنا له من صعوبات مالية في السنوات الماضية, خصوصا في الخدمات الأساسية ذات الارتباط المباشر بمصالح الناس واحتياجاتهم من تعليم وصحة وخدمات مختلفة, وأيضا ملامح مطمئنة لبداية حلول لكثير من مشكلاتنا التي باتت مزمنة كالبطالة والإسكان, وهما من أول ما يجب إيجاد حلول لهما, إلى جانب كثير من النواقص الأخرى, وهو ما أستطيع القول إنه لم يحدث بالقدر المؤمل بناء على وفرة الاعتمادات وتوجيه خادم الحرمين الشريفين الواضح للوزراء بالعمل وإنجاز المشاريع الأساسية والخدمية. وحين قال الملك, وفقه الله, للوزراء إنه لا عذر لهم يكون قد رمى الكرة في مرمى الوزراء ووزاراتهم بعد توفير الأموال اللازمة, وبعد ذلك شهدنا إعلانات لمختلف الجهات الحكومية عن مشاريع قادمة, وسوف تنفذ, وها هو العام قد انقضى دون أن نرى على أرض الواقع ما يتوافق مع تلك الإعلانات عن المشاريع المختلفة, فما زالت جل الخدمات تعاني النقص نفسه, ومعظم مشكلاتنا تتفاقم وتزداد, وما زال الأداء العام يعتريه البطء ويعاني من البيروقراطية بمفهومها السلبي, ومن ذلك أن الأمور لا تتعدى الإعلان عن المشاريع وافتتاحها وإرساء حجر أساسها ثم لا نعلم شيئا عنها, وهنا أتمنى وأقترح بأن تعتمد طريقة جديدة تساعد ولا شك على تطوير الأداء ونقله من الجانب الإعلامي والدعائي إلى الجانب العملي الفعلي وهي أن تلغي حفلات إرساء حجر أساس المشاريع وتقتصر فقط على احتفال ليس إنجازها فقط بل تشغيلها فعليا, فكم من المشاريع التي احتفل بإرسائها تحت الأضواء الإعلامية اختفت أو نفذت بأقل من المواصفات التي أعلن عنها. فلو حولت الاحتفالات من وضع حجر الأساس إلى الإنجاز والتشغيل الفعلي لأمكن حصر الأمور في جانبها العملي والتنفيذي وإلغاء الجانب الدعائي والإعلامي, اللذين كثيرا ما استخدما بغير الفائدة الحقيقية منهما.
نعم, نحن في حاجة إلى عملية جرد حساب حقيقي وفاعل لنعرف ماذا تحقق خلال عام كامل؟ وأن تكون هذه العملية تقييمية وليس فقط حصرية, فكم من المشاريع نفذت بمبالغ طائلة دون أن يكون لها نفع كبير أو تخدم بشكل كامل أو تشغل بالقدر المنتج, وهو ما يعيدنا إلى القول إن الحلول لا توفرها فقط الأموال بقدر ما تحقق من خلال حسن الإدارة التي هي حجر الرحى في عملية النجاح.