طغيان الاقتصاد السياسي
ذات يوم، كنا نحن أهل الاقتصاد حرصاء على تجنب السياسة. وكنا ننظر إلى وظيفتنا باعتبارها الوسيلة لوصف الكيفية التي تعمل بها اقتصادات السوق، عندما تفشل، وكيف تتمكن السياسات الجيدة التصميم من تعزيز الكفاءة. وكنا نحلل المفاضلات بين أهداف متضاربة (ولنقل على سبيل المثال، العدالة في مقابل الكفاءة)، ونَصِف السياسات اللازمة لتلبية النتائج الاقتصادية المرجوة، بما في ذلك إعادة التوزيع. وكان الأمر متروكاً للساسة في أن يأخذوا بنصيحتنا (أو لا يأخذوا بها)، وللبيروقراطيين في أن ينفذوها.
ثم أصبح بعضنا أكثر طموحا. وفي ظل إحباطنا إزاء حقيقة مفادها أن كثيرا من نصائحنا ذهب أدراج الرياح (لا يزال كثير من حلول السوق الحرة ينتظر من ينفذه!)، حولنا جهودنا التحليلية نحو سلوك الساسة والبيروقراطيين أنفسهم. وبدأنا دراسة السلوك السياسي بالاستعانة بالإطار النظري نفسه الذي نستخدمه في تحليل قرارات المستهلك والمنتج في اقتصاد السوق. لقد تحول الساسة إلى موردين للخدمات السياسية حرصاء على تعظيم الدخل؛ وتحول المواطنون إلى جماعات ضغط نفعية وأصحاب مصالح خاصة؛ وتحولت الأنظمة السياسية إلى أسواق، حيث يتم تداول الأصوات والنفوذ السياسي في مقابل منافع اقتصادية.
وهكذا، ولِدَ مجال الاقتصاد السياسي القائم على الاختيار العقلاني، ونمط من التنظير الذي حاكاه عديد من علماء السياسة عن طيب خاطر. وكانت المكافأة الواضحة أننا أصبح بوسعنا الآن أن نفسر لماذا قام الساسة بكثير من الأفعال التي انتهكت العقلانية الاقتصادية. والواقع أنه لا يوجد خلل اقتصادي لا يرجع إلى ''المصالح الخاصة''.
ولكن لماذا يتم منع عديد من الصناعات من المشاركة في المنافسة الحقيقية؟ لأن الساسة خاضعون لنفوذ الحكام الذين يجنون الفوائد. ولماذا تقيم الحكومات الحواجز أمام التجارة الدولية؟ لأن المستفيدين من حماية التجارة متركزون ونافذون سياسيا، في حين يتسم المستهلكون بالانتشار وعدم التنظيم. ولماذا تعمل النخب السياسية على منع الإصلاحات التي من شأنها أن تحفز النمو الاقتصادي والتنمية؟ لأن النمو والتنمية من شأنهما أن يضعفا قبضة النخب السياسية على السلطة السياسية. ولماذا هناك أزمات مالية؟ لأن البنوك تفرض سطوتها على عملية صناعة القرار السياسي؛ حتى يتسنى لها أن تخوض مجازفات مفرطة على حساب عامة الناس.
لكي يتسنى لنا أن نغير العالم، فيتعين علينا أن نفهمه أولا. ولقد بدا هذا النمط من التحليل وكأنه ينقلنا إلى مستوى أعلى من فهم النتائج الاقتصادية والسياسية.
هناك ثلاث طرق تعمل بها الأفكار على تشكيل المصالح. فأولا، تحدد الأفكار كيفية تعريف أهل النخبة السياسية لأنفسهم وتحديدهم الأهداف التي يلاحقونها ــ المال، أو الشرف، أو المكانة، أو طول الأمد في السلطة، أو مجرد مكان في التاريخ. وتشكل هذه التساؤلات حول الهوية أهمية مركزية فيما يتصل بالكيفية التي يقررون بها توجههم في العمل.
وثانيا، تحدد الأفكار آراء الجهات السياسية الفاعلة حول الكيفي التي يعمل بها العالم. فسيمارس أصحاب المصالح التجارية القوية الضغوط من أجل فرض سياسات مختلفة عندما يرون أن التحفيز المالي لا يسفر إلا عن التضخم، وليس عندما يرون أنه يعمل على توليد طلب كلي أعلى. فالحكومات المتعطشة للعائدات ستفرض ضريبة أقل عندما تتصور أن التهرب منها ممكن وليس عندما توقن أن التهرب منها غير ممكن.
والواقع أن هذا هو ما يفسر بعض أكثر التحولات إذهالاً في الأداء الاقتصادي في العقود الأخيرة، مثل النمو الخارق في كوريا الجنوبية والصين (في ستينيات وأواخر سبعينيات القرن الـ20 على التوالي). وفي كل من الحالتين، كان أكبر الفائزين هم ''أصحاب المصالح الخاصة'' (المؤسسة التجارية في كوريا والحزب الشيوعي في الصين). ولم يكن ما ساعد في تمكين الإصلاح هو إعادة تشكيل السلطة السياسية، بل نشوء استراتيجيات جديدة. ولا يحدث التغيير الاقتصادي عادة عندما تلحق الهزيمة بأصحاب المصالح الخاصة، بل عندما تُستَخدَم استراتيجيات مختلفة لملاحقة تلك المصالح.
لا شك في أن الاقتصاد السياسي يظل يشكل أهمية بالغة. وفي غياب الفهم الواضح لمن يكسب ومن يخسر من الوضع الراهن، فمن الصعب أن نفهم سياساتنا القائمة. ولكن الإفراط في التركيز على المصالح الخاصة من الممكن أن يحولنا بسهولة بعيداً عن المساهمة الحاسمة التي يمكن تقديمها من خلال تحليل السياسات وروح المغامرة السياسية. والواقع أن إمكانات التغيير الاقتصادي ليست محدودة بواقع السلطة السياسية فحسب، بل أيضاً بفقر أفكارنا.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.