لم أكن مسحورة..!
في مقالي السابق حدثتكم عن تلك الفتاة التي رأيتها في إحدى غرف انتظار مستشفى خاص، حيث أخبرتني والدتها بأنها تعاني السحر منذ تزوجت بزوجها "رغماً عنها"، وحين علمت من والدتها بالظروف التي مرّت بها ابنتها أدركت أن الفتاة لا تعاني أيَّ سحر، بل إنها ترزح تحت ضغوط نفسية وأسرية موجعة؛ لذلك فضّلت الهروب والانزواء داخلياً بدلاً من القتال من أجل استعادة حياتها من جديد. اقتربت من الفتاة بعد أن استأذنت من والدتها للتحدث إليها، وقلت لها بكل وضوح وأنا أنظر لعينيها الذابلتين "يا سيدتي أنت لا تعانين من السحر وأنت تدركين ذلك جيداً، لكن لأنك إنسانة منهزمة محطمة فضّلت دفن رأسك بالرمال بدل القتال من أجل حياتك، صدقيني.. إن لم تملكي تلك الرغبة الداخلية الجادة في تغيير حياتك والعيش بكرامة وعزة نفس فستكونين أنت هي نفس هذه الإنسانة التي أحدثها حتى بعد 20 أو 30 سنة، الفرق الوحيد أنك ستكونين عالة على بناتك؛ لأن والدتك لن تستطيع الاهتمام بك بعد عشر سنوات بسبب تقدمها في السن، أنت لا تعرفيني وأنا لا أعرفك، لكن ثقي بما قلته لك أنت تعيشين حالياً على هامش الحياة، ولكني أرى أنك تستحقين أن تعيشي حياتك الحقيقية، وصدقيني لن يستطيع أفضل طبيب في العالم أن يساعدك أو يقدم لك حلاً، ما لم تكوني أنت راغبة حقًا في استعادة حياتك؛ لذلك أنت بالخيار، وأرجو أن تتذكري بناتك وهن يشاهدن أمهن بهذا الانكسار".
نادت الممرضة على اسمي ونهضت مودعة الأم وابنتها ومتمنية لها الشفاء واستعادة حياتها من جديد، ولأول مرة أسمع صوتها وهي ترجوني أن أعطيها رقمي، شعرت بالسعادة؛ فلا بد أن حروفي لامست شيئاً في روحها المتعبة، فيما بعد تواصلت معي لشهر كامل ثم طوتني وطوتها مشاغل الحياة وانقطع بيننا التواصل، وضاع رقمها من جوّالي، وقبل فترة بسيطة جاءني اتصال منها وبادرتني قائلة: يا أستاذة سلوى لا بد أنك نسيتني، أنا تلك الفتاة التي ظن أهلها أنها مسحورة!
كان صوتها مفعماً بضجيج الحياة والأمل، وقد أخبرتني بأنها قررت من ذلك اليوم استعادة حياتها مهما كان الثمن الذي ستدفعه، وكانت البداية بسؤال لزوجها: لو أنجبت لك بنت رابعة فماذا ستفعل بي؟ فأخبرها بأنه سيطلقها بلا تردّد؛ ولذلك وبلا تردد منها طلبت منه الطلاق وصك ولاية على بناتها وحصلت عليهما، ثم حاورت والدها بإحدى الجلسات النفسية وبإشراف طبيب نفسي وأخبرته بإحساسها بمسؤوليته عن الأضرار النفسية التي سبّبها لها، مطالبة إياه بألا يفكر بعد اليوم بجعلها إحدى صفقاته التجارية؛ فقد خسرت كثيراً، ثم قررت إكمال دراستها وتحقيق الحلم الذي طالما راودها وهو "كلية الطب"، فسجّلت في إحدى الجامعات في دولة عربية شقيقة، واصطحبت بناتها ووالدتها معها، وهي الآن في السنة الثانية في كلية الطب، وبعد خمس سنوات ـــ بإذن الله ـــ ستنهي دراستها وستكون فخورة بنفسها وبما حققته من انتصار على ظروفها.
السد حين يمتلئ بالماء يفيض، وكذلك النفس البشرية حين تتراكم عليها الضغوط النفسية فسيهذي صاحبها كالمسحور من شدة ضيقه وحزنه وألمه، وما هو بمسحور.. لذلك فإن بعض البشر يتسبّبون في الأذى النفسي للآخرين أشد أحياناً مما يفعله بعض السحرة، فليتهم يتقون الله تعالى، فيفعلون خيراً أو يصمتون!