رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


التنمية ولغة الكم والكيف

لغة الأرقام جميلة ودقيقة، وتعبر عما يراد التعبير عنه بصورة أوضح في كثير من الأحيان إذا ما قورنت بأسلوب الوصف الذي قد يطلق على شيء من الأشياء. لو قلت إن الطريق من الرياض إلى مكة ألف كيلو متر، فهذا أدق من أن أقول الطريق طويل، إذ إنه بالوصف يختلف الفهم، إذ قد يعتبر شخص أن 50 كيلو مترا مسافة طويلة، في حين يعتبر آخر أن 400 كيلو متر طويلا، وهكذا مع شخص آخر، إذ قد يعتبر مسافة 100 كيلو متر هي المسافة الطويلة.
في العلوم الإنسانية يوجد منهجان رئيسان: المنهج الكمي والمنهج الكيفي، أو الوصفي، والسجال بين أنصار المنهجين لا ينتهي، إذ إن أنصار المنهج الكمي يرون أن لغة الأرقام أدق، وأسرع في إيصال الفكرة أو الرؤية المراد التعبير عنها، لكن أنصار المنهج الكيفي يرون أن المنهج الكمي يختزل الظواهر في رقم أصم لا يفهمه كل أحد، ولا يعبر عن الدلالة المقصودة، إذ في رأي أنصار هذا المنهج أن قول المسافة طويلة أو قصيرة أبلغ في التعبير عن المقصود، ويعطي معنى أوضح، وهذا قد يكون أوضح عند التعامل مع الصفات والخصائص الإنسانية، فعندما يقول شخص إن ذكاء الطفل 120 فهذا لا يمكن أن يفهم دلالته إلا المتخصص، لكن عندما أقول إنه مرتفع أو منخفض أو متوسط الذكاء، فهذا أقرب للفهم من قبل الجميع.
الوصف الكمي أو الوصف الكيفي لغتان مختلفتان في التعبير عن الأشياء ولكل منهما إيجابياته وسلبياته، لكن المهم في الأمر تحول أحدهما أو كلاهما إلى ثقافة مجتمعية يتبناها مجتمع من المجتمعات، فهاجس التعبير عن الأشياء بلغة الأرقام أصبح بما يشبه الهوس، وذلك لما يحدثه الرقم، خاصة إذا كان كبيراً، من إبهار لدى من يسمعه، وبالذات حين نتحدث عن تكلفة مشروع من المشاريع، فبعض الدول أو الدوائر داخل دولة من الدول تجد في الحديث عن تكلفة المشروع، وبالذات إذا كانت عالية، أمراً عجيباً، وذلك لما للرقم من تأثير في تخدير السامع أو القارئ عند سماعه الرقم الكبير الذي أنفق لتنفيذ المشروع، كما أن من يذكر الرقم، الذي ينتمي إليه المشروع أو يشرف عليه يشعر بالزهو والافتخار عند ذكره الرقم لينال إعجاب الآخرين الذين قد يطرون ويثنون عليه لإنفاقه هذا المبلغ الضخم.
العلاقة بين الكم والكيف علاقة مهمة، ولا يمكن اختزالها في الموقف أو الظرف الذي يذكر فيه الرقم أو الوصف، لكن السؤال المهم، الذي نغفل عنه هو ما وراء هذا الرقم، أي بمعنى آخر: هل التكلفة للمشروع نتج عنها خدمة تتناسب مع المبلغ الفلكي الذي صرف؟
لو تأملنا في بعض مشاريعنا نجد أنه ليس بالضرورة أن المشروع الأكثر تكلفة هو الأفضل، بل قد يكون مردود المشروع أو الخدمة المتوقعة منه أقل بكثير من مشروع آخر تكلفته أقل بكثير. مشكلة الانبهار بالرقم واستخدام هذا الانبهار لإقناع الناس بالإنفاق الكبير الذي يبذل لا يمكن أن يصمد أمام الواقع حين يخرج المشروع ولا يلمس الناس الجودة في الخدمة. من أبرز الأمثلة على ثقافة الكم التي تنسينا الكيف والنوعية قطار المشاعر، وما ذكر من التكلفة العالية، ومع ذلك لم يجد الناس أداءه والخدمة كما هو متوقع، وبما يتناسب مع حجم التكلفة العالية. ولعل ما حدث من أعطال في موسم الحج الفائت يكشف البون الشاسع بين التكلفة ومستوى وجودة المشروع.
إن ظهور وبروز ثقافة الاهتمام بالكم وغلبتها على الكيف مضرة أيما إضرار، إذ قد تكون لدينا جامعة يدرس فيها عشرات الآلاف من الطلاب، لكن مستوى الطلاب المعرفي والمهاري وما اكتسبوه من قيم قد يكون ضعيفاً، ومع ذلك لا نمل من ترديد أن الجامعة فيها 40 ألف طالب وطالبة، وهذا ينطبق على الطلاب أنفسهم، فكم من الطلاب حاز درجات عالية سواء في مادة من المواد أو في المجموع الكلي، ومع ذلك لا تجد أن الطالب اكتسب ما يجب اكتسابه، وما يتناسب مع الدرجات التي حصل عليها، المشكلة أنه مع الوقت تتحول ثقافة الكم إلى هاجس يراود المؤسسات والقائمين عليها، فصاحب المصنع قد يتباهى بأن مصنعه ينتج هكذا من البضائع، لكن جودة بضاعته قد تكون متواضعة وتشكل عبئاً على المستهلك ومن ثم على الاقتصاد الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي