زيادة مخرجات التعليم الصحي لـ «سوق العمل» أم لـ «صحة المجتمع»؟ (1)

ما زالت مشكلات القطاع الصحي أكثر الموضوعات التي تستهوي الناس والإعلام في الحديث عنها دون تكلف والتعليق عليها بتنظير يصل بنا إلى التناقض في كثير من الأحيان. أما إذا وصل الأمر إلى التضخيم وأصبح قضية رأي عام، فإننا ندخل عوامل في المعادلة ''قسرا'' ولا نترك للموجهين من أكاديميين ومهنيين مجالا سوى الرضوخ لمجريات الأمور فيجتهدون وهنا نبدأ في المراوحة في تخصصات مهنية لا تقبل أنصاف الحلول ولا أنصاف المتعلمين. لماذا يختص القطاع الصحي بهذه الميزة؟ وهل ما زلنا لا نأمل تحسنا وتطويرا؟ وهل ما زالت الأخطاء تحدث ويتكرر حدوثها؟ هل يعي العاملون قيمة الأخطاء المرتكبة خدميا (مهنيا وأخلاقيا) وصحيا واجتماعيا واقتصاديا؟ هل هناك عوامل يمكن أن نركز عليها فنناقش الموضوعات بمنطق علمي أكثر وتوجه استراتيجي مقنن؟ هل الدورات وورش العمل عالجت شيئا من الزمن القديم ولكن للتطور السريع افتقدنا اللمسة السحرية في التعامل مع نقد العصر الحديث؟ ثم هل قمنا بواجبنا حقا في هذا المجال الذي أقسمنا فيه على العمل بأمانة وبالتالي يكون ما يتداول ويدور هو من البعض مجرد حب في الظهور؟
أعتقد أن علينا أن نتحرك في كل الاتجاهات (معرفيا وتعليميا ووظيفيا واجتماعيا وحتى اقتصاديا)، بهدف إيجاد حلول نسد بها الثغرات والوقوف شامخين بعد الوقوع في العثرات. بداية التحرك عادة ما تكون من التعليم وأقصد هنا ''الثانوي والجامعي''. فالتعليم الصحي في السعودية يكاد يكون النموذج الذي يطمح إليه كثير من الدول، لأنهم يعتقدون أن بوجود مواسم العمرة والحج، والتعداد السكاني المتزايد، والمساحة التي تتميز باختلاف التضاريس والمناخ، والوضع الاقتصادي المستقر والانفتاح العالمي عبر العقود الأربعة الماضية، سيكون المنهج الدراسي مثاليا جدا. فالوضع الصحي خلال فترات تجمع الحشود عبارة عن ''عولمة صحية''. أما الإمكانات فهي المذلل لاستقطاب أفضل الموارد البشرية واقتناء أفضل نظم السجلات الطبية الإلكترونية. وبالطبع إذا كان الانفتاح أسس لخروج مئات الآلاف من أبناء هذا البلد الكريم لينهلوا العلم من مصادر متعددة، فإن العودة إلى الوطن تعني تأسيس خطط دراسية وتدريب مكثف لا يمكن أن يقارن فهو خلاصة أفضل المدارس العالمية في التخصصات الصحية المختلفة، ولكن هل تعليمنا الصحي فعلا كذلك؟
لأن التعليم الصحي (الطبي) أصبح يركز في مناهجه وخططه الدراسية على مرتكزات عدة منها عبء المراضة، والأمراض المعدية (المنتقلة بالتنقل والسفر)، إضافة إلى الأمراض الوراثية والأمراض السارية ليكون الخريج ملما بتوزيع المراضة على مستوى العالم وكيفية التعامل مع الفحص والكشف والعلاج، فإن التأكد من تبني ذلك وتخريج مؤهلين متمكنين في ذلك يعني الخروج من التقليدية إلى العصرية وقاية وفحصا وعلاجا، ولتكون المخرجات مثالية في التعامل مع أنماط الشكاوى والأمراض المختلفة للأعمار كافة. وتتعامل مع الألوان المختلفة فتتدرج في التنافس، ومن ثم التميز، فلا بد أن تكون البرامج الإعدادية إبداعية بما تشمله في طياتها من سيناريوهات تتناول مرتكزات صحة المجتمع معتمدة على الأدلة والبراهين. التعليم الصحي لا بد أن يكون أكثر شمولية مما نعتقده ولا بد إذا اتخذنا إجراء لنقله نقلة نوعية أن يتدخل صحاب القرار فيكون أرباب التطوير والتحديث من الناشرين لأبحاث عدة في مجالاته أكاديميا وسريريا. وأن تخضع كافة السيناريوهات لتمحيص وتدقيق مشترك لضمان تخريج ممارسين صحيين يبدعون وهم يعملون. فهل برامجنا تحاكي أو ستحاكي هذا المستوى من التعليم المتقدم في المجال الصحي؟
لذلك لا بد من القيام بدراسة ميدانية (وليست وثائقية أو إعلامية) للوقوف على ما تشمله برامجنا وما لا تشمله من هذه المفاهيم، ثم التأكد من أن اختبارات الهيئة السعودية للتخصصات الصحية تقيس فعلا مدى حصول الممارس الصحي على أدنى درجات الكفاءة في أي تخصص يمنح فيه ترخيصا. إذا نتج عن ذلك تعريف كامل لما نحتاج القيام به فعندها يتم تحديد ''بأي التخصصات نبدأ'' أم تكون الانطلاقة شاملة، وهي في وقتنا الحاضر قد تكون صعبة التحقيق؟
من وجهة نظر شخصية يفضل أن نبدأ بالتمريض والطب، لأن التمريض أكثر المهن الصحية ممارسة في مجال تقديم الخدمات الصحية. لم يثبت بعد أي تخصص يمكن أن يماثل هذه المهنة في الأهمية وزخم العمل المطلوب فيها صحيا مهنيا في أي قطر في العالم. يأتي بعد ذلك الطب حيث إن صحة البشر معلقة بيد الطبيب - بعد الله سبحانه وتعالى - وتأتي الأهمية من أن أي اجتهاد (في التشخيص) في غير محله، فإن الطبيب يكتب نهاية المريض بيده أو يقعده فيكون عالة على نفسه ومن حوله والمجتمع، أو يدخله في دوامة تنعكس على صحته النفسية فيعيش الفرد معتلا يضطر صناع القرار إلى عبور مسارات مكلفة ومضنية لأنهم مكرهون عليها.
بقي في هذا الجزء أن نلفت الانتباه إلى أن الاستمرار في الاستقطاب لا بد أن يصل مرحلة توازن، فالعددية مثلا في التخصصات الصحية مع أنها مطلوبة ونلح في توفيرها في تخصصات حساسة، إلا أن مرتبتها تأتي بعد ضمان تحقيق سلامة المريض. وللحديث تتمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي