الميزانية: هل لنا من فكر جديد؟
الميزانية جدول مصروفات وإيرادات سنوي - صورة ثابتة في لحظة معينة – صورة بسيطة لواقع متحرك ومعقد، وبالتالي يخفي أمورا كثيرة في الواقع الاقتصادي والمالي. تاريخياً لم تتغير كثيرا طريقة عرض الميزانية على الرغم من تغير الواقع الاجتماعي والمعرفي الاقتصادي والمالي. إحدى ملاحظات المادة الرابعة في تقرير صندوق النقد الدولي كانت حول إعداد الميزانية، إذا أخذنا في الحسبان أن الميزانية هي محاولة صانعي القرار الاقتصادي لتحديد الأوليات وربط الحراك الاقتصادي مع الأوضاع المالية ورصد وقياس وتفعيل الممكن تنموياً، فإن الميزانية كما تعد ينقصها الكثير.
لعل أفضل طريق لتوظيف الميزانية مهنيا أن نذكر بعض ما أعتقد أنه مفقود، لتكون الميزانية أكثر ارتباطا بالواقع، بل إعادة قراءة الأوضاع التنموية والاقتصادية، من خلال إعادة صياغة الميزانية تحت مضامين اقتصادية حقيقية. المطلوب إعادة الحياة للميزانية مضمونا وشكلا، ولعل ذلك يتمثل في إعادة عدة عناصر في جوهرها محاولة الربط بين المالي والاقتصادي وبين الاستهلاك والاستثمار.
• تقدر الميزانية لعام واحد فقط، وبالتالي لا تتماشى مع حقيقة أن الخطوات التنموية والحراك الاقتصادي والبناء الهيكلي عادة تتطلب سنوات بل عقودا، وبالتالي الأحرى أن تكون الميزانية لمدة عامين ماليين على الأقل، وخطة أطول استشرافيا.
• الميزانية في تزايد كبير رقما (مقبول) وكنسبة من الدخل القومي (وهذا غير حميد) وفي هذا علاقة غير قابلة للاستدامة وتدل على دور متزايد للحكومة، وخاصة النفقات الجارية والثابتة بمعدلات قد لا تستطيع الحكومة الاستمرار فيها مستقبلا، وفي أوقات قد تكون غير مؤاتية.
• لا تذكر الميزانية المصروفات بالتفاصيل الاقتصادية مثل التفريق بين الثابت (الرواتب والصيانة والتشغيل) والاستثمار الرأسمالي وجزئياته المادية والبشرية، وما قد ينتج عنه من التزامات ثابتة مستقبلية، وكذلك لا تذكر تفاصيل عن طبيعة وأنواع الدعم المباشر وغير المباشر وسياسته التوزيعية.
• لا تذكر الميزانية قطعيا شيئا عن التزامات صناديق التأمينات وخاصة التقاعد المتنامية في ظل إدارة متواضعة، كذلك لا تذكر شيئا عن آفاق تكاليف برامج التأمين الصحي، والتي هي حتماً الطريق للتعامل مع الحاجة الضاغطة لإصلاح القطاع في القريب، إذاً يستحسن تقدير هذه التكاليف استشرافياً.
• لا تذكر الميزانية شيئا عن مستوى أسعار النفط الحاسمة في أي حسابات ولو استشرافية أو عن مصادر الميزانية غير النفطية، وهل هذه في حركة تواكب النمو في الميزانية أو الدخل القومي.
• لا تذكر الميزانية نسبة الاستثمار من الدخل القومي وطبيعة وتفاصيل هذا الاستثمار (وحتى تفاصيل عن الشركات الحكومية مثل أرامكو، وشبه حكومية مثل سابك والاتصالات والكهرباء ومعادن وغيرها)، فهذه جزء من الاقتصاد. نسبة الاستثمار في إندونيسيا مثلا تصل إلى 33 % والبرازيل 18 %، فهذه مؤسسات حكومية، ويصعب فصلها عن الحراك الاقتصادي أو الحالة المالية.
• يستحسن أن تذكر الميزانية وصفا دقيقا عن طبيعة الاقتصاد السعودي من حيث الأجزاء القابلة للمتاجرة (الاستيراد والتصدير) والأجزاء غير القابلة مثل القوى البشرية والعقار بتفاصيله (الأراضي والسكن وغيرها من الجزئيات).
كلما تكون الفعاليات الاقتصادية أكثر معرفة تزداد حصانة وقوة، وتضطر حتى لمراجعة سياستها التخطيطية من خلال نظرة أكثر شمولية وبعد زمني. الهدف الأسمى أن يبتعد الاقتصاد السعودي تدريجيا عن الاعتماد على مصدر واحد ناضب متذبذب وغير ذي ارتباط وثيق مع الإنتاجية والتميز. حدث تطور كثير في البيئة والفعاليات الاقتصادية، ولكن إعداد وعرض الميزانية لم يتغير؛ حان الوقت لمزيد من الشفافية والوضوح. الاكتفاء بالتعويل على أن سعر النفط متذبذب مدخل للتفكير والتحسين، ولكن يجب أن يكون كذلك لمواجهة السياسات المطلوبة.