رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


دعوة الإنصاف إلى العقول

هذا ما رواه الرواة عن نبي الله موسى بن عمران - عليه السلام - حين وقف الحواريون من صحابته على كلب أسود ميت تفسخ تأكل الديدان منه بعد أن استحال إلى جيفة نتنة في حال شنيع. موسى سمع من استعاذ بالله من رائحته، وسمع من تحدث عن شناعة منظره وقبحه، وسمع من تحدث عن الجيف وما تورثه من استجلاب كل شيء قبيح، نبي الله موسى اتجه نحوهم ونظر في كل ما نظروا إليه، ونظر إلى كل الجوانب التي ذكروها.. إلا أنه قال:
- ما أجمل بياض أسنانه!
ومضى يرفع عينيه إلى السماء لا يتجه بهما إلى الأرض، والحواريون يقول بعضهم إلى بعض: لماذا لم ينظر أي واحد منهم إلى ما رآه موسى؟ رغم كونه كان أكثر شيء فيه بروزا ووضوحا؟! الحكم بالسلب على الذات وعلى الآخرين، وعلى كل شيء حولها هو أسهل الأحكام، وأقلها تكلفة على من اعتادها، حتى بلا نية سيئة مطوية في قلبه بالضرورة، إلا أن هذا نمط تفكير اعتاده، وسلوك اجتماعي درج في مدارجه ومشى فيه صغيرا وألفه شابا، وبات من أعجز الخلق عن التجرد منه، رجلا وراشدا إن نطق أو كتب.
لا أحد يعلم على نحو اليقين بكل تلك المقدمات التي آلت إلى جعلنا ذوي نزوع شرس في انتقاد ذواتنا! وانتقاد كل المتصلين بنا، وكل شيء حولنا! حدا جعل كلمة الثناء الجميل والتعبير عن الحب المخلص وذكر حسنات بعضنا بعضا من الخطايا السبع، وككل قصص تشويه الفهم، نلتصق برؤية قاصرة مجزأة، وناقصة في الفهم. لحديث هنا أو حديث هناك! ونغفل عن التقابل والتضاد في كون النبي - صلوات الله وسلامه عليه - لم يتوقف عن الثناء على صحابته، جماعات وآحادا، ولم يمارس النقد الشخصي إلا بمقدار منع جريمة على وشك أن تقع. فهذا زيد بن حارثة يقول إنه صحب النبي أكثر من 20 عاما، لم يسمعه ولا مرة واحدة يذم طعاما يأكل منه أو يذم مكانا نزل فيه .. أو يذم أحدا من الناس، أو حتى يذم حرا أو بردا! كان كسائر الأنبياء يتجه نحو الصفات .. ويحاكم الأفعال بالمثوبة والثناء .. والخاطئة بالعقاب، إن لم يكن له سبيل من سبل ''خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين''.
لقد اشرأبت القلوب بحب النقد للذات، حتى بات الثناء يقارب في الملازمة العقلية قرينة النفاق والتزلف والطمع في نيل الرضا! وهذا غريب مستغرب! إذ لا مجال لهذه الصفات كلها مع قول الحق في الثناء على من يستحقه، والشهادة بالخير لمن هو جدير بها، وهو أول بشارة المؤمن، شهادة الخلق له بالخير!
وأحيانا ثمة ''خبث في السرائر'' وقسوة في الطبع تجعل من ''هدم الآخرين'' متعة شاذة ينتشي بها ويكررها ويبحث عن كل فرصة لبثها ونشرها، ولو في رق منشور وكتاب مطبوع! لذا فشلت كل المجتمعات البشرية عبر التاريخ، وبتفاوت درجات الوعي والمعرفة فيها، في التغلب على الغيبة أو الانتصار عليها! أو ظهور مظاهر كراهيتها أو نبذها، أو التباعد عنها وعن فاعلها وساقيها، العكس تماما هو الصحيح.
باتت الحسنات في الموتى فقط والثناء على من نحب، وعلى من نعرف هو ''الحنوط ''، لا يناله إلا ميت وجسد بارد، غاب حسه ووعيه.
الجميع عاجز عن رؤية بياض أسنانه! رغم كونها أجمل ما فيه وأظهر شيء فيه، ربما لأننا فقدنا القدرة على وزن الوقائع، وفقدنا القدرة على الحساب.. حساب السيئات وحساب الحسنات، الإيجاب والسلب، ربما تجرد منهج التعليم من مفردة تعليم (النقد وعدالته) وقراءة الذات وعدم جلدها، أو إذلالها، أو تجريدها من حسناتها، وبناء الجدران الآيلة للسقوط قبل سقوطها.. وفتح منافذ الرجاء في القلوب والعقول قبل استحكام الظلمة وتفرد العزلة عن الناس والإحباط بالنفس .. منا الذين يتلذذون بالتجريح .. ويتباهون كثيرا بمعرفة بواطن الأمور، على نحو يتخطى إدراك كل من يستمع إليهم .. ويفوق كل من يتحدث معهم، والويل لك إن قلت خيرا في سياسة أو مكان أو إنسان! الذي عاش بالنفاق سيرى صفاته فيك ولن يجد للحب سبيلا ومنبعا لحسك وشعورك وتصورات عقلك.
من الحكمة ألا يكون للواحد منا اطمئنان زائد إلى فضيلة النفس، ولا اطمئنان إلى حكمتها وعلمها أكثر من الآخرين .. يتعين أن نكافح من أجل عودة الإنصاف إلى العقول، وأن نُحضر هذا الجيل الراهن لرؤية واقعه ومن حوله بموضوعية مجردة، أن نتعلم ونعلمهم الخروج من الذات الصغيرة المغلقة لرؤية الحياة والمجتمع والناس من حولنا بما هم فيه من سعة ورحابة وجمال، أن نتعلم حسن النية وحسن الظن وحسن النظرة. وحس الجمال وتذوقه في كل من نحب، ونتخطى السيئات والذم والغيبة. وأن نوازن في قراءة الواقع بحساب السيئات والحسنات. ببساطة متناهية .. خذوا كلمة موسى بن عمران - عليه السلام - حين نظر للكلب الميت: ''ما أجمل بياض أسنانه..''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي