المؤسسات الخيرية ومنهجية العجز
يبدو الأمر مدهشا أن يكون لدينا 1300 جمعية خيرية تتوزع على خريطة الوطن، ومع هذا تجد الضجر المتصاعد من عجزها عن القيام بدورها في التنمية الاجتماعية، رغم الدعم المستمر الذي تجده الجمعيات من الدولة ومن الموسرين.
أخفقت الجمعيات الخيرية في تحقيق أهداف التنمية الاجتماعية بمفهومها الشامل، وغاب الأداء المؤسسي لمعظمها وباتت أقرب ما تكون إلى جمعية واحدة بفروع متعددة، والقواسم المشتركة لهذا العجز الواضح تتطلب إعادة النظر في النظام الأساسي للجمعيات الخيرية حتى لا تبقى نقطة ضعف في مسيرة التنمية الاجتماعية.
من يتابع الجمعيات الخيرية ويستقرئ واقعها بدقة يجدها تعاني أزمة كبيرة في اختيار القيادات المؤهلة القادرة على تفعيل الأهداف الأساسية التي وردت في اللوائح التنظيمية للجمعيات، فمعظم القيادات الخيرية تعمل بشكل متطوع أو بدوام جزئي، ويغلب على أفكارها الحماس والاجتهادات الفردية، وهو ما لا يتناسب مع فلسفة العمل الخيري الذي تجاوز مرحلة الاجتهادات، وأصبح عملا تخصصيا وأداء مؤسسيا بالدرجة الأولى يعززه التوسع العلمي الكبير لدى الجامعات العالمية في تقديم برامج دراسية وتدريبية في استراتيجيات العمل الخيري بمختلف توجهاته.
وما ينطبق على القيادات العليا ينطبق على الموارد البشرية العاملة التي تقوم على اجتهادات محدودة لأفراد معدودين هم في أفضل الأحوال موظفون متعاونون أو متطوعون، يؤدون أدوارا تقليدية دون رؤية حقيقية، أو تخطيط علمي، إضافة إلى افتقاد المفرغين منهم للأمان الوظيفي، وغياب الحوافز، وضعف الأجور، وتنظيم ساعات العمل، وقرأت إحصائية سابقة في ملتقى مؤسسات العمل الخيري الذي عقد في الخبر قبل عامين تقدر عدد المتعاونين في الجمعيات الخيرية بستة آلاف موظف يتقاضون رواتب مقطوعة، وعدد قليل منهم متطوع فعليا بلا أجر، وهو رقم كبير يثير التساؤلات حول الفرص الوظيفية التي يشغلها هؤلاء المتعاونون، وكان الأولى أن تكون لمتفرغين مؤهلين بما يشكل قيمة مضافة للأداء العام.
ولا يقف عجز الجمعيات عند حدود مواردها البشرية، بل يتعداه إلى افتقارها إلى مفهوم العمل الاجتماعي التنموي بمعناه المتعارف عليه الذي يركز على التنمية الذاتية وإعادة التأهيل مع القدرة على الإدارة والتخطيط الاستراتيجي، وجمع المعلومات، والرصد الميداني بالطرق العلمية، ما جعلها أقرب ما تكون لمراكز توزيع عشوائية لمستفيدين عشوائيين، وهذا أسهم في ارتباك الأداء وتضجر المستفيدين.
ولا نغفل جانب الشفافية والمساءلة، وضعف الرقابة، فهناك أرقام ضبابية وغير محدثة لأغلبية الجمعيات التي اطلعت على مواقعها، حيث لا يعرف الدخل المادي السنوي لكل جمعية، وحجم التبرعات، وحجم الإنفاق، وحجم المستفيدين وتصنيفهم، وحاولت وزارة الشؤون الاجتماعية سابقا الاستعانة ببعض المحاسبين لضبط حسابات بعض الجمعيات، لكن -مع الأسف- المشكلة قائمة بسبب ضعف التنظيم وعدم قدرة منسوبيها على التعامل مع الأرقام والمعلومات بشكل إيجابي.
ويضاف للضعف الإداري وغياب الشفافية افتقاد التخصص، فالجمعيات لا تعرف هل تتعامل مع مشكلات المحتاجين، أو مشكلات المعنفين، أو الأيتام؟ وهذا لا يتناسب مع المتغيرات المتسارعة التي تحترم التخصص في كل المجالات، وأستثني من ذلك جمعية رعاية الأيتام التي تتميز بهويتها الناجحة.
إن الجمعيات الخيرية في حاجة ماسة اليوم إلى نقلة نوعية لمواكبة متطلبات المجتمع ولم يعد ملائما لها هذا الأداء الهامشي في ظل دعم الدولة ورغبة المجتمع الأصيلة في فعل الخير، وهي في حاجة -في رأيي- إلى تغيير استراتيجياتها وتعزيز تنافسيتها كمؤسسات فاعلة ومؤثرة في البناء الاجتماعي.
ولعل خطوات التغيير تبدأ من البحث عن الكفاءات الإدارية المتفرغة لقيادة العمل الخيري والقادرة على التعامل مع موارد الجمعيات واستثمارها بطرق مختلفة وغير تقليدية، والمساهمة في تفريغ منسوبيها وربطهم بنظام التأمينات الاجتماعية وتأهيلهم عبر مزيد من البرامج التطويرية، وابتعاث الآخرين للاطلاع على التجارب العالمية وبرامج العمل الاجتماعي الناجحة.
والاهتمام بالجانب التنظيمي والتقني وإنشاء مراكز معلومات متقدمة لرصد وتصنيف المستفيدين من خدماتها، وتطوير مواقعها على الإنترنت، وتضمينها كل المعلومات للمانحين والمستفيدين ونوعيات المحتاجين وطرق الوصول إليهم.
مع الالتزام التام بالشفافية في طرح الإحصائيات، وإعلان الموارد المادية بشكل منتظم، وإعطاء دور أكبر للمرأة وتفعيل العمل الميداني واستقطاب المختصين والباحثين الاجتماعيين لطرح برامج غير تقليدية مثل برامج تأهيل الفقراء، وبرامج التأمين الصحي للمحتاجين، والتنسيق مع وزارة العمل ومؤسسات القطاع الخاص لتوظيف المحتاجين.