دروس جديدة في التكامل الاقتصادي

أثبتت الأزمة التي تمر بها منطقة اليورو أن التكامل الاقتصادي بين الدول عملية معقدة وليست مجرد عقد اتفاقات وتنسيق أنظمة معينة، والدخول في اتفاقيات تحرير تجارة، أو توحيد العملة. بل إن للتكامل الاقتصادي أبعادا تتعدى ذلك إلى جوانب تتعلق بالسياسة الداخلية في الدول، وسيادتها فيما يتعلق باتخاذ قرارها الاقتصادي. التكامل الاقتصادي الذي قدم خلال نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات الميلادية على أنه النموذج الأفضل لتعزيز النمو من خلال زيادة حجم التبادل التجاري بين الدول، أصبح الآن يمر باختبار صعب جدا، ومخاض عسير، سينتج عنه إما كيان أوروبي أكثر اتساقا وتوحدا، أو تهميش لهذا المشروع، والعودة إلى المربع الأول الذي تركز الدول فيه على الجوانب التنافسية المحلية، وعلى الحمائية سواء فيما يتعلق بالتجارة أو انتقال العمالة.
الكيان الأوروبي الذي كان نتاج مشروع سياسي بالدرجة الأولى، أغفل الكثير من الجوانب الرئيسة التي ينظر إليها الآن من قبل البعض على أنها جزء أساسي من هذا الكيان. ففي إطار السعي للدفع بهذا المشروع من قبل الدول الكبرى الأوروبية، خصوصا فرنسا وألمانيا، أملا في محو آلام وترسبات الحرب العالمية الثانية، وما تبع ذلك أيضا من محاولة لزيادة وتيرة هذا التكامل بالانتقال إلى مرحلة الاتحاد النقدي بعد سقوط جدار برلين وتوحد الألمانيتين، أدى ذلك إلى إغفال الكثير من الجوانب، خصوصا في المرحلة الأخيرة المتعلقة بالاتحاد النقدي. فالتجربة الأوروبية أثبتت أن الاتحاد النقدي الذي يعد أعلى مراتب التكامل الاقتصادي، يجب ألا يقتصر على التخلي فقط عن سيادة الدولة في إصدار عملتها أو تقرير سياستها النقدية، لكنه يتعدى ذلك إلى جوانب أخرى أكثر تعقيدا، خصوصا على جانب السياسة الداخلية للدول.
تعلمنا من التجربة الأوروبية أن استقرار الاتحاد النقدي يتطلب عناصر أخرى يجب أن تتم إدارتها على مستوى الاتحاد النقدي، كعملية الإشراف على القطاع المالي، من خلال تأسيس اتحاد مصرفي أيضا، وما يتضمنه ذلك من مؤسسات على مستوى الاتحاد ككل تكون مسؤولا عن ضمان الودائع، وأخرى للإشراف المصرفي، وأيضا مؤسسة لتسوية المؤسسات المالية المتعثرة. تعلمنا أيضا أن متانة واستقرار الاتحاد النقدي تتطلب أن يكون هناك أيضا اتحاد مالي مواز له، إذ لا يمكن أن يكون إصدار الدين العام متروكا للدول بشكل منفرد، لأن المسؤولية في تحمل تبعات ذلك مسؤولية مشتركة للجميع، وهذا يتطلب أن تكون هناك رقابة على مستوى الاتحاد على موازنات الدول. كذلك دور البنك المركزي للاتحاد يجب أن يكون أكثر شمولا من مجرد ضبط الأسعار، إنما يتعداه إلى تحقيق الاستقرار المالي. وتحقيق هذه العناصر والمتطلبات يتطلب وجود مؤسسات اتحادية قادرة على الاضطلاع بهذه المهام، وكذلك مؤسسات وقيادات سياسية على مستوى الدول قادرة على تفهم هذه المسؤوليات والتبعات التي قد تترتب عليها، وإيصال ذلك للشعوب نفسها.
التجربة الأوروبية غنية بالكثير من الدروس التي ستوفر للدول الأخرى التي تسعى إلى التقدم في عملية التكامل الاقتصادي الفرصة للتعلم منها، والاستفادة من هذه الدروس في تصميم برنامج وخطط التكامل الاقتصادي، ومن هذه الدول مجلس التعاون الذي يسعى الآن إلى تأسيس اتحاد نقدي. وقد يكون من حسن الحظ حدوث هذه الأزمة في منطقة اليورو بالذات، وعدم حدوثها في غيرها، لأن مؤسسات الاتحاد الأوروبي هي الأكثر تقدما مقارنة بالاتحادات النقدية الأخرى. الأوروبيون ليس لديهم طريق إلا المضي قدما في عملية التكامل الاقتصادي، وتحمل المسؤوليات بشكل مشترك، لأن طريق العودة عن هذا المسار سيكون مكلفا جدا سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي. إقليم كاتالانيا الآن، وهو الأغنى من بين الأقاليم في إسبانيا، يطالب بالانفصال عن إسبانيا، وهو ما يعد ظاهرة خطيرة قد تؤدي إلى حدوث مطالبات أخرى في دول أخرى كإقليم الشمال الغني في إيطاليا عن الجنوب. زيادة هذه المطالب قد تؤدي إلى تهديد المشروع الأوروبي بأكمله، وهو ما ليس في مصلحة الاستقرار العالمي في الوقت الحالي بالذات على المستوى السياسي، الذي يشهد محاولات لقوى أخرى كروسيا لفرض هيمنتها على أجزاء من العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي