الاستراتيجية الوطنية لتنويع مصادر الدخل
موظف كبير في إحدى المنشآت المدنية المعنية بالتنمية الاقتصادية يقول إن رأس هرم هذه المنشأة التنفيذي لا يؤمن بالتخطيط ويعتقد أن التخطيط مضيعة للوقت ولا فائدة منه وأن العمل يجب أن يكون استجابة للأحداث والمعطيات والمتغيرات بنظام ''طقها والحقها''، وللأمانة كنت أعتقد في بادئ الأمر أنه يمزح معي إلى أن أكد لي ذلك وأن هذا هو الواقع.
لا أخفيكم لقد سمعت من أكثر من مصدر أن الكثير من المديرين لا يؤمنون بالتخطيط وأن مهمتهم تسيير الأعمال فقط وفق الأنظمة واللوائح، بل إن الأمر الأسوأ هو أن بعض قيادات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني وخصوصا الخيرية يعمل وفق منهجية ''طقها والحقها''، وبطبيعة الحال انعكس هذا الإيمان العكسي بالتخطيط على واقعنا سلبا، فعدم التخطيط وفق المنهجيات العلمية التي تعتمد على الدراسات التحليلية والتشخيصية الدقيقة يعني التخبط وفقدان الفاعلية والكفاءة وتبديد الموارد، ولا أدل على ذلك من حالنا، حيث يرزقنا الله بالمليارات سنويا ويعجز مريضنا أن يلقى سريرا وشوارعنا مهترئة ومدارسنا مستأجرة وبطالتنا عالية ونعاني من مشكلة إسكانية تتفاقم بمرور الزمن إلى غير ذلك من المشاكل.
والمشكلة العظمي التي تقلقنا جميعا هي مشكلة الاعتماد الكلي على مصدر اقتصادي واحد ناضب وفشلنا خلال السنوات الماضية في تكوين اقتصاد رأسمالي حقيقي متنوع المصادر والقطاعات، يعتمد بشكل كبير على الموارد البشرية النامية وطاقاتها وإبداعاتها بدل الموارد الطبيعية الناضبة، وفشلنا هذا دون أدنى شك جعلنا نضيق ذرعا بنحو 22 مليون مواطن في قارة متنوعة الجغرافيا والمناخات والثقافات، والبعض يفسر ذلك بأنه ''قلة الموارد الطبيعية'' التي ترهل العضلات الفكرية بسبب الموارد المالية السهلة.
السؤال المهم إلى أين نحن ذاهبون اقتصاديا؟ هل لدينا خطة استراتيجية تمكننا من مسك زمام الأمور والمبادرة خلال مدة زمنية محددة لمعالجة وضعنا الاقتصادي المقلق؟ أم أننا متواكلون ولا زلنا نراهن على الكريم سبحانه وتعالى أن يجعل الظروف والمعطيات دائما لصالحنا، كما أكرمنا في العقود السابقة والتي كان بعضها مريرا عندما وصل سعر البترول لنحو ثمانية دولارات للبرميل؟
كل اقتصادي مختص في قطاع النفط والغاز يعلم أن أسعارهما لا تخضع للعرض والطلب وأنها تحدد وفقا لمتغيرات خارج سيطرة الدول المنتجة، وأن الدول المستهلكة الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة هي غالبا من تحدد أسعار النفط، وهي من أوجدت له القيمة بعد أن طورت صناعات تستخدم النفط كمصدر للطاقة وكمصدر للموارد الأولية للصناعات، واليوم مراكز أبحاثهم تعمل ليل نهار لابتكار مصادر طاقة بديلة وحققت نجاحات ملموسة في هذا الجانب، كما تعمل على توفير مصادر جديدة كمواد أولية للصناعات، وبالتالي فنحن أمام مخاطر انخفاض أسعار النفط والغاز قبل نضوبها فضلا عن مشكلة النضوب ومشكلة ارتفاع معدلات استخدامنا للبترول والغاز للاحتياجات المحلية.
المؤشر الرئيس لحالنا الاقتصادي وهو ''إجمالي الناتج المحلي'' يقول إننا في خطر إذ يشير إلى أن أكثر من 90 في المائة منه تأتي من الصادرات النفطية والتي لا يعتبرها البعض من الناتج المحلي لأنها مجرد استخراج نفط من باطن الأرض دون جهد بشري لتصنيعه أو معالجته، وبالتالي نحن ''أمة في خطر'' إن جاز التعبير ويجب أن نهب جميعا مؤسسات وأفرادا للتصدي لهذا الخطر وفق خطة استراتيجية مزمنة يشارك بها الجميع.
والسؤال هل نحن على درجة كبيرة من السوء بحيث لا نستطيع التحول إلى اقتصاد رأسمالي حقيقي متنوع المصادر ومنافس أم أننا نتمتع ببنية تحتية قوية وإمكانيات ظاهرة وكامنة تمكننا من التحول السريع إلى مرحلة الاقتصاد المتنوع؟ بكل تأكيد كما يبدو لي أننا نتمتع بكل متطلبات التحول السريع متى ما عقدنا العزم على ذلك بنية مخلصة وبمنهجية علمية تستثمر جميع التجارب الدولية الناجحة في كل من كوريا وماليزيا وتركيا والبرازيل فقط.
نعم فالحكومة عملت في السنوات السابقة وطورت قطاعات اقتصادية يمكن لها أن تلعب دورا كبيرا في تنويع مصادر الدخل مثل قطاع الصناعات البتروكيماوية، وقطاع السياحة، حيث نتمتع بالحرمين الشريفين ومواقع أثرية متعددة والسياحة العائلية النظيفة، أيضا لدينا قطاع الثروة السمكية، وقطاع التعدين والأسمنت، كذلك لدينا عدد هائل من الجامعات والمستشفيات وكل ذلك يشكل قاعدة قوية لاقتصاد متنوع قوي متى ما قمنا بإعادة الهيكلة الاقتصادية لكل هذه القطاعات ووضعنا في قالب السوق الرأسمالي القادر على تحقيق الاستدامة بذاته دون الحاجة إلى إيرادات النفط.
ماذا لو أضفنا الموارد البشرية المتنامية عددا ونوعا التي يمكن أن تتحول من عالة إلى ثروة بمجرد إعادة هيكلة البيئة التي تمكنها من إطلاق طاقاتها وإبداعاتها في القطاعات كافة، وأخيرا ما أنعم الله علينا به من إيرادات نفطية هائلة يمكن استثمارها في تمويل تطوير القطاعات الاقتصادية كافة لتتمكن من التحول إلى صفة الاستدامة والإبداع والمنافسة المحلية والدولية، وهو أمر ممكن خصوصا إذا نظرنا لتجارب الدول محدودة الموارد المالية والتي توجهت للاقتراض لتحقيق نهضتها الاقتصادية المذهلة والسريعة والمتنامية.
ختاما: أتطلع إلى أن تقوم الجهات المعنية سواء وزارة الاقتصاد والتخطيط أو المجلس الاقتصادي الأعلى بوضع خطة استراتيجية تبنى على مؤشرات يرعاها خادم الحرمين الشريفين ـــ حفظه الله ـــ كما هي خطة 10 في 10 التي حسنت البيئة الاستثمارية ــــ وذلك بهدف تنويع مصادر الدخل وتخفيف الاعتماد على النفط بنسبة سنوية حتى الوصول إلى الوضع المعياري لمساهمة النفط في إجمالي الناتج القومي، وكلي ثقة أن ذلك ممكن وسريع وسيشارك الجميع في تحقيقه لأنها قضية مصيرية لنا ولأجيالنا المقبلة وللوطن بالمحصلة.