الطبقة الوسطى .. أمان وعمود فقري (2 من 2)
إن لوجود الطبقة الوسطى واتساع قاعدتها آثارا اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية إيجابية. فيما يتعلق بالآثار الاقتصادية أكدت العديد من الدراسات في مجال الاقتصاد الاجتماعي أن المجتمعات التي تتسع فيها قاعدة الطبقة الوسطى تزداد فيها معدلات الادخار العائلي (ادخار الأفراد) ومعدلات الاستهلاك العائلي (استهلاك الأفراد) كما لا يتوقف الاستهلاك على الاستهلاك الضروري، بل يشمل أيضا الاستهلاك شبه الضروري والكمالي. هذا يعني أن الأسواق في المجتمعات التي يتسارع فيها نمو الطبقة الوسطى تتسع والعكس صحيح.
وكنتيجة لتزايد معدلات الادخار والاستهلاك العائلي تتزايد معدلات الاستثمار الخاص. هذا الوضع سيحفز الطلب الكلي للاقتصاد على النمو، ما يدفع عجلة نمو الاقتصاد للتحرك. وفي ضوء ما تقدم أعلاه يمكن القول: إن اتساع قاعدة الطبقة الوسطى يعتبر من العوامل المهمة لنمو أي اقتصاد. كما أن نمو الطبقة الوسطى يعتبر من المقومات المهمة لتحقيق التنمية الشاملة ومؤشرا مهما يعكس عدالة أكبر في توزيع الدخل القومي.
أما من الناحية الاجتماعية فإن الطبقة الوسطى تخلق التوازن الاجتماعي في المجتمع، حتى لا تطغى الطبقة الفقيرة أو الثرية على النسيج الاجتماعي، وهي بذلك تعتبر العمود الفقري وصمام الأمان لأي مجتمع.
إن تآكل الطبقة الوسطى يؤدي إلى خلل في التركيبة الطبقية للمجتمع، ما يؤجج الصراع الطبقي فيه ويخلق اضطرابات سياسية داخلية عارمة. كما أن تآكل الطبقة الوسطى يعتبر مؤشرا واضحا لسوء توزيع الدخل القومي الذي تشهده معظم الدول النامية، حيث تسود الطبقة الفقيرة على النسيج الاجتماعي لمجتمعات هذه الدول. والجدير بالذكر أن هناك علاقة قوية بين سوء توزيع الدخل القومي والفساد. ومن الآثار الاجتماعية الأخرى لتآكل الطبقة الوسطى اتساع دائرة الفقر، وارتفاع معدلات الجريمة وتفشي تعاطي المخدرات والأمراض النفسية. أما الناحية السياسية فإن الدول التي تكون فيها الطبقة الوسطى ذات قاعدة عريضة في مجتمعاتها تتمتع باستقرار سياسي واجتماعي، حتى اقتصادي واضح.
منذ بداية عام 2011 تشهد الدول العربية اضطرابات سياسية أطلق عليها ما يسمى بـ "الربيع العربي". أدت هذه الاضطرابات إلى تغيرات واضحة في أنظمة الحكم لهذه الدول. إن من الأسباب الرئيسة للاضطرابات التي اجتاحت هذه الدول تآكل الطبقة الوسطى واتساع دائرة الفقر، وسوء واضح في نمط توزيع الدخل القومي بين شرائح مجتمعات هذه الدول، هذا إضافة إلى تفشي الفساد وارتفاع معدلات التضخم.
يعتبر التضخم الذي يمثل الارتفاع في المستوى العام للأسعار العدو الأول للطبقتين الوسطى والفقيرة على حد سواء، ذلك لأن التضخم يؤثر سلبا وبقوة في أصحاب الدخول الثابتة. وبما أن معظم أفراد الطبقتين الوسطى والفقيرة هم من أصحاب الدخول الثابتة، لذلك فإن التضخم يؤثر سلبا وبقوة في هاتين الطبقتين، ما يؤدي إلى الإخلال بالتركيبة الطبقية لأي مجتمع من خلال تآكل الطبقة الوسطى واتساع دائرة الطبقة الفقيرة.
شهدت السعودية منذ بداية العقد الماضي ارتفاعا متواصلا في معدلات التضخم، الأمر الذي أدى ويؤدي حتما إلى تآكل الطبقة الوسطى واتساع قاعدة الطبقة الفقيرة في المملكة، ما يفاقم الخلل في التركيبة الطبقية للمجتمع السعودي ويؤدي إلى سوء في نمط توزيع الدخل القومي بين شرائح المجتمع السعودي. هذا الوضع قد يفرز آثارا اجتماعية واقتصادية وخيمة تتمثل في عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
إن تحديد مصطلح للطبقة الوسطى في المجتمع السعودي وتحديد معالم طبقات وشرائح المجتمع السعودي، وخط دقيق للفقر في المملكة، إضافة إلى معايير دقيقة لتحديد نمط توزيع الدخل القومي بين شرائح المجتمع السعودي، أمر في غاية الأهمية. كما أنه يجب أن يعتمد كل ذلك على دراسات وبيانات ومعلومات دقيقة. إن توافر الدراسات والبحوث والبيانات والمعلومات الاجتماعية والاقتصادية ذات البعد الاجتماعي والديمقراطي في المملكة، أمر ضروري لوضع برامج وسياسات إصلاحية لإصلاح الخلل في التركيبة الطبقية للمجتمع السعودي وفي نمط توزيع الدخل القومي بين شرائح المجتمع السعودي باتجاه عدالة أكبر في توزيعه وأخيرا، حل مشكلة الفقر في المملكة.
كما يجب العمل بجد في المملكة للسيطرة على التضخم وخفض معدلاته، لأن التضخم - كما أسلفنا أعلاه - هو العدو الأول للطبقتين الوسطى والفقيرة، وأحد أهم المشكلات الاقتصادية الرئيسة المسببة في عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، حتى السياسي.
وتأكيدا على ما سبق فإن لوجود الطبقة الوسطى واتساع قاعدتها في أي مجتمع دون استثناء أهمية قصوى، لأنها ببساطة صمام أمان وعمود فقري لأي مجتمع، فهي التي تخلق التوازن الاجتماعي والاقتصادي المطلوب حتى لا تطغى الطبقة الفقيرة أو الثرية على النسيج الاجتماعي والاقتصادي. كما أن الطبقة الوسطى هي محل الحراك والتفاعل والإبداع الفكري والثقافي والسياسي، لذلك فإنه من الضروري وقف تآكل الطبقة الوسطى وتوسيع قاعدتها في المجتمع السعودي، وذلك من خلال وضع برامج وسياسات فاعلة ذات بعد اقتصادي واجتماعي، تقلص دائرة الفقر وتوسع قاعدة الطبقة الوسطى.