مصرنة الاقتصاد السعودي
في وسط المحاولات المصرية الجادة وغير المكتملة لتحديث الاقتصاد من خلال تحريره وتخصيصه في السبعينيات من القرن الماضي، بدأت المملكة في الاتجاه المعاكس بالأخذ بسياسات الاقتصاد الحكومي. وكأن البلدين على الوتيرة نفسها فلم تأخذ مصر بتحديث اقتصادها جدياً، إذ كانت حذرة وبطيئة، لذلك لم تنجح في النهاية، حيث تكالبت العيوب الهيكلية والنمو السكاني والرأسمالية الضيقة لخنق الاقتصاد، بينما لم تأخذ المملكة موقفا سلبيا تجاه القطاع الخاص، لكنها استمرت حثيثاً في (عمعمة) الاقتصاد على حساب التنمية الحقيقية من خلال إبراز دور القطاع الخاص إلى أن وصلنا إلى استهلاك هذا النموذج الحكومي، بما أفرزه من سياسات مالية. أهم هذه السياسات تمت بوساطة خطوات عدة خاصة في السياسات البشرية (تعليمياً وعملياً) حتى بالدفع المباشر، ناهيك عن إغفال الحاجة إلى إعادة النظر في منظومة الدعم، وصلنا إلى الحالة المصرية بامتياز تدريجياً، لكننا أخذنا خطوات كبيرة في هذا الاتجاه في الأشهر القليلة الماضية.
الإشارات الأولية تدل على أن مصر في حالة تراجع اقتصادي، إذ إن النزعة الشعوبية تطالب بمزيد من الدعم، فهناك اقتراحات حول تحديد الأجور ورفع بدل بطالة، وخوف كبير في الشارع من الحديث عن الدعم، فمثلاً أصبحت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، ما يكلفها ملياري دولار سنوياً لدعم الخبز فقط. وتأخذ المملكة بالنهج نفسه، لكن بسرعة أكبر، فالمملكة أكبر مستورد للشعير في العالم دون ثروة حيوانية طبيعية، فتوظيف خريجي المعاهد والكليات الصحية بالجملة حتى مع معرفة عدم تأهيل كثير منهم ورغبة مئات الآلاف في بدل بطالة ونظام نطاقات خجول، كلها مؤشرات تدل على السعي الحثيث نحو النموذج المصري الذي خذل المصريين وسيخذل السعوديين.
المملكة ومصر تحتاجان إلى منظومة سياسات اقتصادية تختلف جذرياً عن السياسات الاشتراكية المفلسة. أهم خصال هذه السياسات الحالية هي ضياع الشفافية وسطوة من لديه المعلومة والعلاقة والتوظيف بالواسطة والتساهل مع الحاجة إلى الكفاءة. لقد تركت النخبة في مصر المشكلات الجزئية والعيوب الهيكلية تنخر في الجسم الاقتصادي إلى أن وصلت إلى النقطة الحرجة. الوضع المالي وسقف التوقعات واستحقاقات الوضع السياسي الجديد سيجعل مهام الإصلاح في مصر أمرا عسيرا. أفق الحل في المملكة يختلف جذرياً، فالوضع المالي القوي يمكنها من هندسة نقلة نوعية تبدأ بإعادة هيكلة الدعم وسعودة فاعلة (هناك علاقة وثيقة بينهما) بعيدة عن الشكليات، لكنها تحتاج إلى رؤية واضحة وقدر من الشجاعة والتفكير بروح الفريق الواحد، وهذا لا يتم الآن، فالجهات الاقتصادية المعنية غير مترابطة وتعمل بمعزل عن بعضها البعض وتفضل النقاش على ارتفاع عشرة آلاف قدم عن الواقع وتختلق الأعذار الواهية إلى أن تفوت فرصة الوفرة المالية لتحويل مجرى الاقتصاد، وبالتالي التوجهات التنموية التي ما الاقتصاد إلا مدخل لها جميعاً.