فضيحة الليبور (3)
كانت الشكوك في كيفية تحديد معدل الليبور كما سبقت الإشارة كبيرة، وفي أيار (مايو) 2011 تصدت لجنة التجارة في المستقبليات السلعية في الولايات المتحدة للقضية وبدأت في طلب معلومات عن كيفية تحديد الليبور، والتي تمثل أساس حساب معدلات الفائدة لمئات التريليونات من الدولارات لقروض الرهن العقاري وكروت الائتمان وغيرها من العقود على المستوى الدولي، وبعد تحقيق مطول قامت بتسليم مكتب السلطات المالية في المملكة المتحدة دلائل قوية على حدوث تلاعب متعمد في تحديد الليبور، أكثر من ذلك أعلنت إدارة مكافحة الاحتكار في وزارة العدل الأمريكية أنها ستقوم بعمل تحقيق فيما إذا كانت الـ16 مصرفاً الرئيسة التي تقوم بتحديد معدل الليبور قد شكلت اتحادا فيما بينها فيما بين 2006 إلى 2009 كجزء من خطتها للتلاعب في الليبور أم لا؟ أثبتت التحقيقات أن فضيحة الليبور لا تقتصر فقط على الليبور، وإنما أيضا امتد التلاعب إلى مثيله الأوروبي يوريبور Euribor، أي معدل الفائدة على القروض ما بين المصارف في منطقة اليورو.
وفقا لوزارة العدل الأمريكية فإن مصرف باركليز البريطاني هو أول مصرف يتعاون بشكل كامل مع التحقيقات، ربما في مقابل ضمانات بالاكتفاء بالحكم بطلب تعويض من المصرف وعدم توجيه مسئولية جنائية عن عمليات التلاعب. بمقتضى التحقيقات أقر مصرف باركليز بأنه قام بتقديم عروض أقل من الواقع حول تكاليف اقتراضه خلال الفترة من نهاية 2007 حتى أيار (مايو) 2009، حيث حاول ممثلو ''باركليز'' التأثير على عروض الليبور من أجل تحويل الأوضاع التجارية لصالح مصرفهم، وهو سلوك غير مقبول، حيث يفترض أن عطاءات ''باركليز'' يجب أن تعكس التكلفة الحقيقية للقروض المتبادلة بين المصارف، وليس ما يقدمه الممثلون من مواقف ائتمانية. فقد كان أحد أهم المفاهيم السائدة لدى المصارف في ذلك الوقت هو أن القوة المالية للمصرف ترتبط أساسا بما سوف يقوم بدفعه من التزامات في الأجل القصير، حيث كانت أزمة السيولة الحادة هي أهم مشكلات القطاع المصرفي في ذلك الوقت نتيجة للأزمة، وقد كانت إدارة ''باركليز'' قلقة من أن يبدو للسوق أن المصرف يدفع معدلات فائدة للاقتراض أعلى من غيره من المصارف، وهو ما يمكن أن يدمر الثقة في المصرف في ذلك الوقت.
من ناحية أخرى أقر ''باركليز'' بأن المصارف قامت بالتأثير بصورة غير مناسبة على الليبور في عروضها خلال الفترة من 2005-2008 لتمويل المشتقات، وقد قدر الخفض المتعمد في المعدل بما يتراوح بين 30-40 نقطة أساس، أي ما بين 0.3-0.4 في المائة. تزايدت الضغوط على ''باركليز'' وتم تغريمه بدفع 453 مليون دولار لتسوية القضية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. في البداية قام رئيس مصرف باركليز روبرت دايموند بتقديم اعتذاره، بسبب فضيحة التلاعب في الليبور التي غطت القطاع المصرفي البريطاني كله، غير أن الضغوط السياسية وضغوط المستثمرين في المصرف اضطرته إلى إعلان استقالته يوم الثلاثاء قبل الماضي. بالطبع سوف يدفع ''باركليز'' الغرامة صاغرا في محاولة لتقليل الآثار السلبية التي يمكن أن تدمر سمعته كمصرف.
حاليا تقتصر الفضيحة على ''باركليز''، باعتباره المصرف الذي في الواجهة الآن، غير أن هناك 16 مصرفا آخر يمكن أن تكون مشتركة في الفضيحة، وأن الغرامة على ''باركليز'' لن تكون الأخيرة، فمما لا شك فيه أن التحقيقات قد تسفر عن بعض التحالفات القذرة التي تمت للتلاعب في الليبور. أكثر من ذلك فإنه لن يكون هناك بالطبع ضمانة لأن تتعامل وزارة العدل الأمريكية مع باقي المصارف المشتركة في الفضيحة بهذه الدرجة من الأريحية، وأننا ربما نقرأ في المستقبل عن حالات أعنف وأكثر حرجا من حالة ''باركليز''. حيث إن هناك قائمة من المصارف التي لم يتم الإعلان عنها بعد ويتم التحقيق في حالتها بما في ذلك ''سيتي جروب''، دويتش بنك، وإتش إس بي سي، وجي بي مورجان، وتشيز، ورويال بنك في سكوتلاند، وهذه قائمة ما أعلن عنه حتى الآن، وربما تكشف التحقيقات عن قائمة أطول من المصارف المشتركة في الفضيحة.
عندما بدأت الشواهد تشير إلى انحراف عملية تحديد معدل الليبور، اقترح بعض المحللين اللجوء إلى معدلات أخرى بديلة لليبور أكثر اعتمادية في انعكاس أوضاع السوق عليها، مثل معدل أذون الخزانة الأمريكية، ومعدل اتفاقيات إعادة الشراء Reop، ومعدل الفائدة على الأوراق التجارية Commercial papers، وغيرها من معدلات الفائدة الفعالة، بحيث يكون الاختيار ناتجا عن اختبارات تطبيقية وواقعية لمدى اعتمادية وكفاءة هذه البدائل في أن تحل محل الليبور، غير أن هذه الدعوات لم تجد في ذلك الوقت آذانا صاغية، نظرا للوضع المتميز الذي يحتله سوق لندن النقدي على المستوى الدولي، غير أن تطورات الفضيحة الأخيرة ربما تحمل بعض الخطورة على مركز سوق لندن.
وأخيرا مما لا شك فيه أن جمعية المصرفيين البريطانية تواجه أزمة حقيقية اليوم، وأنه ربما قد يكون من الأفضل أن تراجع آليات تحديد الليبور بحيث تتجنب إمكانيات حدوث تكتل بين المحددين له للتأثير عليه في المستقبل، فمن المؤكد أنه كان من الممكن تلافي التلاعب في الليبور إذا كانت عملية طرح المعدلات تتم بصورة مختلفة، بدلا من الأسلوب الحالي الذي يمكن مجموعة المصارف المحددة للمعدل من أن تتكتل فيما بينها لطرح معدلات تختلف على المعدلات السوقية ولو بصورة هامشية.
حتى وقت قريب كان العالم ينظر إلى الليبور على أنه أفضل أساس مرجعي للعقود المالية للأغراض المختلفة، سواء للمضاربة أو التغطية أو المقايضات أو المستقبليات.. إلخ. اليوم أصبحت آليات السوق والمنافسة في تحديد معدل الليبور يحوم حولها قدر كبير من الشك، كما أن سمعة المركز المالي للندن اليوم في الحضيض، بحيث أصبحت الفضيحة لا يقتصر أثرها على مصرف أو عدة مصارف، وإنما تهدد المركز النقدي الدولي للعالم، وأن المدينة سوف تحتاج إلى مجهود استثنائي لكي تستمر في الحفاظ على سمعتها كأكبر مركز نقدي، وأن النظام المصرفي في حاجة إلى فعل شيء من جانب المراقبين لتنظيم عمل القطاع على نحو يضمن عدم تكرار مثل هذه الممارسات، وحتى الآن لم يتم تحويل أحد للمسؤولية الجنائية عن الحالة وكل ما تم حتى الآن هو فرض غرامات مالية، وبما أن التحقيقات ما زالت جارية مع البقية الباقية من المصارف فإن الفضيحة الحقيقية لليبور في رأيي لم يكشف عن أبعادها الكاملة بعد.