الجهاز الحكومي بحاجة إلى فكر جديد
من اللافت للانتباه أنه خلال السنوات الأخيرة ازدادت بشكل ملحوظ المشكلات والأحداث المتعلقة بخدمات تقدمها جهات حكومية مختلفة، فمشكلات كثيرة تحدث في القطاع الصحي، سواء من ناحية توافر هذه الخدمات، أو فيما يتعلق بالأخطاء الطبية، أو سواء تلك المتعلقة بالإدارة الشاملة للقطاع الصحي ككل. أحداث أخرى تتعلق بقطاع النقل، خصوصاً تلك المرتبطة بقطاع السكة الحديدية، وما حدث أخيرا بشأن عقود القاطرات الجديدة، أو بالحادث المؤسف الذي أدى إلى انقلاب القطار. قطاع التعليم له نصيبه أيضاً من هذه المشكلات، بما في ذلك ما أثير أخيرا حول العقود المتعلقة بالبحث العلمي، أو مشكلات المبتعثين مع الملحقيات التعليمية التي تشرف عليهم في الخارج. أضف إلى ذلك قضية تعثر المشاريع الحكومية التي استثمرت فيه الدولة الكثير، وما يؤدي إليه من تعثر خطط تطوير الكثير من القطاعات الحكومية.
التساؤل الذي يبرز هو: لماذا هذا التزايد المطرد في هذه المشكلات؟ وهل هي ناتجة عن جوانب إدارية بحتة وسوء إدارة من المسؤولين في الأجهزة المختصة أم أن هناك جوانب فنية وقانونية وبيروقراطية أخرى مرتبطة بها؟ الإجابة عن هذه التساؤلات هي البداية الحقيقية لحل هذه المشكلات والتغلب عليها نهائياً، ومعرفة ذلك تتطلب المزيد من البحث والنقاش، وألا يقف ذلك فقط عند حد إقالة مسؤول، أو تعيين آخر بديلاً له. الهجوم على الأشخاص لن يفيد كثيراً في حل هذه المشكلة، ولكن بالطبع من المهم إبراز المشكلة، لكي يشجع على التعامل معها في وقت مبكر، ولكي يتحمل الأشخاص مسؤولياتهم في ذلك، لكن ذلك لن يكون كافياً لوضع حلول جذرية لهذه المشكلات، وبالتالي سنسمع بتجددها مرة أخرى، وسنعود للدوران في حلقة مفرغة. لذلك، فإن البحث عن جذور هذه المشكلات يعد شرطاً أساسياً ولازماً لتجاوزها، ولكي لا تكون عائقاً للتنمية الاقتصادية، ولتجنب آثارها السلبية على المواطن.
وهذه المشكلات، سواء تلك المتعلقة بالجوانب القانونية التشريعية، أو الجوانب الإدارية، تجتمع لتؤدي في المجمل إلى ضعف ملحوظ في كفاءة القطاع الحكومي في تنفيذ مهامه. هذا الضعف المتزايد، تحدثت عنه وتحدث عنه زملاء آخرون في مناسبات سابقة محذرين من عواقبه الوخيمة، وعن دوره في إعاقة عملية التنمية الاقتصادية. ومع تزايد حجم القطاع الحكومي الآن وتزايد مسؤولياته، ومع ارتفاع وعي المواطن، وتنوع وسائل التعبير والاتصال مع الجمهور، فإن هذه المشكلات أصبحت ظاهرة للعيان. ظاهرة تردي مفاهيم المسؤولية والالتزام والكفاءة والإخلاص، ومنظومة القيم التي تشكل الأساس لأي بيئة عمل، أصبحت ظاهرة في كثير من القطاعات الحكومية.
ولنكن عادلين، فإن المسؤول الحكومي لا يتحمل وحده نتاج هذه الأخطاء، لكن ذلك أيضاً لا يعفيه من المسؤولية، فهو إن عجز عن الإصلاح، فإن ذلك لا يعفيه من مسؤولية التنبيه إلى هذه المشكلات ومخاطرها المحتملة. هذه المشكلات التي تتكرر هي نتاج تفاعل الجهاز الحكومي بكل مكوناته المادية والبشرية وتفاعله مع المجتمع حوله، وليست نتاج المسؤول على رأس الهرم الإداري فقط. تراجع مستوى القيم في المجتمع يلعب دوراً كبيراً في توسيع دائرة الفساد الإداري والمالي، كما يؤدي إلى تردي ثقافة العمل في الجهاز الحكومي. ضعف آليات الرقابة والمحاسبة التي يفترض أن تقوم بها وتفعلها جهات محددة تتيح لهذه الثقافة أن تتردى أكثر فأكثر، وتسهم في توسيع دائرة هذه المشكلات. ضعف الشفافية وانتشار ثقافة السرية في التعامل مع كثير من الأمور التي تتطلب ذلك، تزيد قاعدة التعامل بناء على الثقة والمصلحة، دون اعتبار للكفاءة، حتى غدت الشللية والعلاقات الشخصية هي المحدد لبروز الأشخاص ووصولهم إلى قمة الهرم الإداري.
عدم وضوح آليات الوصول إلى المناصب العليا واعتماد ذلك - كما أشرت - على القدرة على الوصول والتواصل، والافتقار إلى آليات تقييم الأداء المهني للأشخاص، يزيد هذه المشكلة، ويؤدي إلى عزوف الأشخاص من ذوي الكفاءة عن العمل في القطاع الحكومي، ما يؤدي إلى أن يكون القطاع الحكومي مرتعاً لمنخفضي بل منعدمي الكفاءة. وما يفاقم ذلك ويزيد تأثيره، أنظمة الخدمة المدنية، التي - كما أشرت في مقالات سابقة - تسهم في تعميق مشكلة انعدام كفاءة الجهاز الحكومي، وتجعل منه بيئة مناسبة لضعف الإنتاجية.
من يعتقد أن تغيير الأشخاص سيؤدي إلى تغيير مسار قطاع حكومي معين وانتشاله من مشكلاته فهو مخطئ. ماذا يمكن لمسؤول أن يفعل إذا كان مكبلاً بأنظمة تمنعه من إعادة هيكلة جهازه الحكومي، وتحد من قدرته على مكافأة المتميز، ومعاقبة المسيء. الوزير لا يمكنه تغيير وكيل وزارته إلا بإجراءات معقدة، ولا يمكنه إضافة وكالة جديدة إلا من خلال لجنة لا تجتمع إلا مرة واحدة في السنة، وإن استصدر قرارا بذلك، فإن تنفيذه سيتطلب أجيالاً لتحقيقه. المشكلة مشكلة فكر قديم متجذر في القطاع الحكومي، يجب التخلص منه وتغييره، لكي يكون هذا الجهاز مواكباً للعصر ولطموحات المواطنين، ولكي لا يكون عائقاً للتنمية الاقتصادية. جهازنا الحكومي ما زال يسير بمحرك من الستينيات الميلادية، بينما لم تستطع الدول الأخرى التي تقدمت اقتصادياً أن تتقدم إلا عندما غيرت هذا المحرك بآخر من تصميم وفكر جديد يواكب العصر.