حديث الأرقام!

حديث الأرقام!

بعد نحو أسبوعين على بدء منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) تطبيق قرارها خفض الإنتاج بنحو 1.2 مليون برميل يوميا، كانت أنظار السوق متجهة لمعرفة كيفية ومدى التزام المنظمة بقرارها هذا، آخذا في الاعتبار سجلها البائس فيما يتعلق بعمليات الانضباط والتطبيق الحرفي لقرارات خفض الإنتاج.
إحدى وسائل السوق لمعرفة ما يجري متابعة النشرات المتخصصة، ومن هذه الشركات التي تقوم بمتابعة وضع شحنات النفط من الدول المنتجة إلى زبائنها في مختلف الأسواق. وبالفعل شهد الأسبوع الماضي ورود تقريرين عن حجم الصادرات النفطية للدول الأعضاء في "أوبك".
المثير في التقريرين ليس في اختلاف الأرقام، وهو أمر طبيعي، لكن في التضارب الحاد الذي يجعل من الصعوبة بمكان الوصول إلى أي خلاصة يمكن البناء عليها باطمئنان.
فشركة "بترولوجستكس" ولها سنوات طويلة في هذا المجال، خرجت بتقرير تقول فيه إن المنظمة قلصت إلى حد كبير إنتاجها، ربما بأكثر من مليون برميل يوميا، أي أنها قاربت الهدف الذي وضعته لنفسها، لكن في المقابل خرجت شركة "أويل موفمنتس" التي تتحدث عن تحركات البراميل النفطية بتقرير معاكس تماما، وهو أن الدول الأعضاء في المنظمة وفق ما توافر للشركة خلال فترة الأسبوعين منذ بداية هذا الشهر وتطبيق اتفاق الخفض، وربما حتى مطلع الشهر المقبل، زادت في واقع الأمر إمداداتها للسوق بنحو 210 ألف برميل يوميا.
هذا التضارب يعيد إلى الأذهان أحد المتاعب الأساسية التي تعاني منها السوق النفطية، وهو غياب المعلومات المؤكدة التي يمكن البناء عليها في شكل قرارات وسياسات سواء لدى المستهلكين أو المنتجين.
غياب المعلومات أو ما أصبح يطلق عليه انعدام الشفافية في الوقت الحالي يبدو ظاهرة منتشرة تعود جذورها إلى طبيعة الصناعة النفطية نفسها، التي لها تاريخ طويل من التدثر بالسرية وذلك بسبب الطبيعة الاستراتيجية للصناعة نفسها، الأمر الذي دفعها إلى إيجاد تراث عريق من نشر أقل قدر ممكن من المعلومات ولأهداف محددة ولوقت محدد.
"أوبك" نفسها عانت من هذه الظاهرة، وهو ما اتضح جليا إبان فترة التدهور السعري في النصف الأول من عقد الثمانينيات ومحاولة الدفاع عن هيكل الأسعار من خلال التزام الدول الأعضاء بالحصص الرسمية المتفق عليها، وهو ما يتطلب معرفة حجم الإنتاج الحقيقي لكل دولة. وبعد فشل الكثير من عمليات المناشدة قررت "أوبك" تكليف شركة محاسبة هولندية أن تقوم بعملية التدقيق تلك، وهي في النهاية لم تستطع الوصول إلى معلومات لا يود أصحابها الإفصاح عنها.
وكما عبر أحد الوزراء القياديين في "أوبك" وقتها، ومن باب خيبة أمله في المشروع، أنه لا يمكن فرض إجراء على دول ذات سيادة، إلا إذا استصحبت الشركة معها جيوشا حتى تتمكن من الوصول إلى السجلات التي تيسر لها أمر معرفة حجم الإنتاج الحقيقي.
وفي واقع الأمر فإن التضارب في الأرقام لا يقتصر على "أوبك" وحدها، وإنما حتى الجهات التي تعتمد مبدأ الشفافية وتضخ كميات مهولة من الأرقام اليومي منها، الأسبوعي والشهري وفي مختلف القطاعات، تعاني من هذه الظاهرة.
فإدارة معلومات الطاقة الأمريكية مثلا، وهي الذراع الإحصائية للحكومة الأمريكية في هذا الجانب، تختلف أرقامها عن تلك التي ينشرها معهد البترول الأمريكي، وهو تحالف يضم أركان الصناعة وشركاتها، رغم أنها تتناول السوق نفسها وتغطي فترات زمنية أو قطاعات معينة. كما أن الأرقام الأمريكية تناقض في معظم الأحيان تلك الواردة من الوكالة الدولية للطاقة رغم أن الأخيرة من بنات أفكار وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، أي أن نطفتها الأولية أمريكية.
إذا ينبغي الإقرار بداية بوجود المشكلة، وأنها ليست قاصرة على "أوبك" أو السرية التي تسعى إلى إسباغها على تصرفاتها لإخفاء أهداف التسيب وعدم الالتزام بالقرارات المتخذة وما يتعلق منها بحجم الإنتاج لكل دولة.
لكن يظل أمر الأرقام هما مقيما، لأنه لا بد من وجود مؤشرات، حتى وإن كانت ضعيفة، يمكن على هديها بناء سياسات سواء تلك الموجهة إلى المنتجين أو المستهلكين وتتعلق بمجالات الإنتاج، التصدير، الاستهلاك، الخام، المنتجات المكررة، وغير ذلك.
منتدى الطاقة الدولي الذي بدأ نشاطه في الرياض يسعى إلى أحداث اختراق في هذا الجانب، حيث بدأ نحو 94 قطرا في جانبي المنتجين والمستهلكين في تقديم بياناتها بصورة منتظمة، لكن لا تزال تحتاج إلى تحسين وتوحيد المعايير المستخدمة، وفي ضوء ذلك يمكن للأرقام أن يصبح لها معنى.
تلك خطوة استغرقت سنوات طويلة، بل ويمكن القول إن جذورها تعود إلى نحو ثلاثة عقود من الزمان منذ أن بدأت حوارات المنتجين والمستهلكين في ظل أزمات وضغوط تقل أو تكثر على هذا الطرف أو ذاك، وكان وضع الأرقام يظل برأسه أحيانا كما يمكن تلمسه بصورة أخرى أحيانا وكأنه الضمير المستتر وجوبا بالنسبة إلى الصناعة، وهي ما يتطلب التهيئة إلى حلول ذات أمد بعيد، لكن المهم بداية وضع القدم على الطريق السليم.

[email protected]

الأكثر قراءة