تفاوت الدخل بين المواطنين.. الأسئلة الخمسة
كشفت مجلة ''فوربس الشرق الأوسط'' في عدد نيسان (أبريل) عن قائمة أثرياء العرب لعام 2012 معلنةً عن وجود 36 مليارديراً عربياً لهذا العام يملكون إجمالي ثروات يقدر بـ 121.3 مليار دولار. تأتي هذه القائمة متزامنة مع بلوغ عدد سكان الدول العربية نحو 350 مليون نسمة، وبقاء قرابة 45 في المائة منهم في دائرة الفقر ضمن اقتصادات عربية تنمو بوتيرة جداً بطيئة ووجود قرابة 20 مليون شاب عربي عاطل عن العمل، حسب تقديرات منظمة العمل العربية.
يفتح هذا التباين الباب نحو النظر في موضوع تفاوت الدخل وحيثيات هذا التفاوت على مستقبل التنمية المستدامة. موضوع استرعى اهتمام مجموعة من الدراسات الاقتصادية أخيرا في محاولة لبحث الأسباب والحلول. صدر ملخص عن هذه الدراسات في نشرة صندوق النقد الدولي البحثية لحزيران (يونيو) الحالي بهدف تسليط الضوء على أهم التساؤلات التي طرحتها الدراسات الاقتصادية الصادرة أخيرا حول موضوع تفاوت الدخل. ركزت هذه الدراسات على خمسة أسئلة جديرة بالطرح بما يساعد على تسليط الضوء على تحدي تفاوت الدخل.
يدور السؤال الأول الذي تناولته هذه الدراسات حول أداة قياس تفاوت الدخل. يعد معامل ''جيني'' إحدى أشهر الأدوات الإحصائية لقياس تفاوت الدخل بين السكان، حيث يعتمد المعامل على حسابات مركبة لإحصاءات الناتج المحلي الإجمالي وثروات الاقتصاد المحلي الواحد لحساب ناتج يراوح بين صفر وواحد. ويكون توزيع الدخل في أفضل حالاته عندما يكون ناتج المعامل صفرا، بمعنى أن الدخل متساو لجميع أفراد المجتمع. والعكس صحيح عندما يكون ناتج المعامل واحدا. وتكون حالة توزيع الدخل متباينة عندما يكون الناتج بين الواحد والصفر. وعلى الرغم من اعتماد مجموعة من الدراسات الاقتصادية على معامل ''جيني'' لقياس تفاوت الدخل، إلا أن مجموعة أخرى من الدراسات تركز على مؤشرات أخرى من أهمها نسبة السكان الواقعين داخل دائرة الفقر.
تقودنا أداة قياس تفاوت الدخل إلى السؤال الثاني، الذي تناولته الدراسات الاقتصادية، والذي يدور حول وتيرة هذا التفاوت عبر العقود الماضية. تشير هذه الدراسات إلى أن تفاوت الدخل كان في اقتصادات العالم المختلفة يشكل نسبة بسيطة قبل قرابة الأربعة عقود، ثم حدثت تطورات مختلفة أسهمت في زيادة هذا التفاوت بين دخل السكان كان ذروتها نهاية العقد الماضي. وعلى الرغم من إسهامات الدراسات الاقتصادية في واجهة زيادة الوتيرة أخيرا، إلا أن المؤشرات تدعم استمرار التفاوت بين دخل السكان في اقتصادات العالم المختلفة.
ساعدت هذه المؤشرات الدراسات الاقتصادية على بحث السؤال الثالث الذي يدور حول مسببات هذا التفاوت. وجدت هذه الدراسات أن هناك ستة مسببات مترابطة لتفاوت الدخل عبر العقود الماضية، أولها الدخول التدريجي للتقنية في عملية إنتاج المنتجات والخدمات المختلفة، ما أسهم في الاستغناء التدريجي عن العمالة المؤهلة التي كانت تؤدي الدور قبل دخول التقنية في العملية الإنتاجية. وعُزي السبب الثاني إلى العولمة وما سببته من تصدير لهؤلاء العمالة المؤهلة للانتقال للعمل خارج أوطانهم إلى دول أقل تطوراً في العملية الإنتاجية لتؤدي الدور ذاته الذي كانت تؤديه في أوطانها قبل دخول التقنية في العملية الإنتاجية وبمقابل الأجر ذاته. وعُزي السبب الثالث إلى تراجع تأثير النقابات العمالية في صناعة القرار الاقتصادي في الدول المتقدمة تقنياً بسبب نقص عدد عمالتها المؤهلة من جراء تصديرهم لدول أقل تقنية. وعُزي السبب الرابع إلى تدني أجور العمالة المؤهلة التي بقيت في أوطانها بسبب التحدي الذي واجهته من دخول التقنية في العملية الإنتاجية. وعُزي السبب الخامس إلى زيادة وتيرة هجرة عمالة الدول النامية إلى الدول المتقدمة لطلب الرزق وقبولها بأجور أدنى من الأجور التي يتقاضاها أقرانهم من العمالة الوطنية. وعُزي السبب الأخير إلى زيادة رواتب ومخصصات العاملين في القطاعات المالية وتأثيرات ذلك في اكتساب هذه القطاعات قوة التأثير في صناعة القرار الاقتصادي بشكل أكثر من ذي قبل.
تناولت الدراسات الاقتصادية في سؤالها الرابع انعكاسات تفاوت الدخل على رفاهية الأجيال المقبلة. وجدت هذه الدراسات أن هناك أربعة انعكاسات رئيسة لهذا التباين على الدول التي تعاني تفاوت دخل مواطنيها. أول الانعكاسات تباطؤ النمو الاقتصادي على المدى البعيد بسبب اختلاف وجهات نظر السياسيين وأقرانهم من رجال الأعمال عند صدور تشريعات إصلاحية جديدة تهدف إلى معالجة تفاوت الدخل. والثاني الانخفاض التدريجي للقدرة الشرائية لشرائح المجتمع ذات الدخول المتدنية بسبب ضغوط المجتمع عليهم في تنمية روح المقارنة بينهم وبين أقرانهم من شرائح المجتمع ذات الدخول العالية وانعكاسات ذلك على لجوئهم إلى القروض الاستهلاكية الآنية على حساب دخولهم المستقبلية. والثالث النمو التدريجي للطبقية في المجتمع وانعكاسات ذلك على امتداد الطبقية إلى نوعية الخدمات الأساسية في المجتمع من رعاية صحية وتعليمية. والرابع الانتقال التدريجي من مرحلة الهوية الواحدة للمجتمع الواحد إلى هويات متعددة داخل المجتمع الواحد مرتبطة بالطبقية الناتجة مسبقاً بسبب انتقال ترسبات تفاوت الدخل من جيل إلى جيل.
تقودنا هذه الانعكاسات لتفاوت الدخل داخل المجتمع الواحد إلى النظر في السؤال الخامس والأخير الذي تناولته الدراسات الاقتصادية والذي يدور حول الدور الحكومي لمعالجة هذا التفاوت وتحقيق العدالة في توزيع الدخل بين السكان. أوصت هذه الدراسات بأربع توصيات للحكومات التي تعاني تفاوت الدخل بين مواطنيها. أولاها أن تقوم هذه الحكومات بتطوير وتنفيذ سياسات جديدة لإعادة توزيع الدخل. والثانية إعادة النظر في تخصيص الخدمات الأساسية من رعاية صحية وتعليمية بما يضمن المساواة بين جميع أفراد المجتمع. والثالثة الاستدامة على تطوير سياسات الحد الأدنى للأجور والتأكد من مواءمتها للنمو الاقتصادي في المجتمع. والرابعة إعادة القطاعات المالية إلى مكانها الطبيعي في التأثير في صناعة القرار الاقتصادي.
تحدي تفاوت الدخل بين المواطنين موضوع مهم استرعى اهتمامات الدراسات الاقتصادية منذ عقود عطفاً على صلته الوثيقة ببلوغ مستهدفات التنمية المستدامة من عدمه. أداة قياس تفاوت الدخل، ووتيرة نموه عبر العقود الماضية، ومسبباته، وانعكاساته على رفاهية الأجيال المقبلة، والدور الحكومي المنشود لمعالجة هذا التفاوت وتحقيق العدالة في توزيع الدخل بين السكان؛ هي أهم محاور تساؤلات الدراسات الاقتصادية في هذا الشأن.