رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


جدة.. العبقرية في الزمان والمكان!

في هذه الأيام تحلق جدة الممروعة بين الأيدي والأقلام، ويكتب عن جدة أحمد بأديب وأحمد فتيحي والدكتور عبد الله بخاري والدكتور عبد الرزاق أبو داود والدكتور عبد الله مناع، ثم استفزني أخي الدكتور عبد الإله ساعاتي وطالبني بالكتابة عن الست المعشوقة والممشوقة جدة. ولدت جدة من ''رحم'' حواء، ودفنت حواء في حضن هذه المدينة الرصينة الوديعة، جدة تغني دائماً للفرح بأصالتها السعودية والتاريخية، وتتحدث بوجدانها قبل فلوسها وبعواطفها قبل أموالها وأملاكها.
تبدو جدة وكأنها دهليز طويل يفضي في النهاية إلى كل أرجاء السعودية بخيراتها وروعتها وجمالها وجلالها، وتقع مدينة جدة بالنسبة لبحرها الأحمر في سرة هذا البحر العتيد، أي مدينة جدة - بالنسبة للمملكة - كأنها البوابة الرئيسة للدخول في ربوعها والوصول إلى مقدساتها، وجدة من الناحية الاقتصادية والتجارية هي المركز والبؤرة للاقتصاد السعودي الزاهر والزاهي، وإذا أطلت جدة بوجهها القشيب نحو الشرق، فإن الصحراء السابحة بكثبانها يبدو لها منظراً خلاباً، وإذا استدارت وأطلت بوجهها نحو الغرب فإن أمواج البحر الأحمر تخلخل شواطئها وتناغيها وتلاغيها.
إن الموقع الاستراتيجي لمدينة جدة أعطاها ميزة الاتصال بالعالم الخارجي وجعلها حلقة وصل بؤرية بينها وبين مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومنهما شرقاً حتى تهامة والجبال التي أمامها والجبال التي خلفها، ثم تصافح الصحراء، وبعدها تصافح كل تضاريس الطبيعة الساحرة التي تتمتع بها كل المدن في جميع دول العالم.
وهكذا تبدو أهمية جدة للمملكة، كما الإسكندرية لمصر، وكما بيروت للبنان، وكما اللاذقية لسورية، وكما دبي للإمارات، بل كما لوس أنجلوس للولايات المتحدة.
هذه الكتل من الخصائص الواصلة إلى جدة من محيطها المتلألئ أعطت جدة مميزات قد لا تتوافر في مدن أخرى، حيث نستطيع أن نقول إن جدة هي من أهم نقاط التفاعلات والتوازنات لمجتمع التنمية السعودي.
إن الطبيعة الجغرافية والتاريخية والأنثربولوجية أعطت لجدة بعداً إشعاعياً عن المدن الأخرى، فالمدن الأخرى تريد أن تصبح مثل جدة، تريد أن تحاكي جدة في جمالها، في سحرها، في نعومتها، في رقتها، في روعتها، وفي صحفها وأنديتها، في أسواقها، في شواطئها وجامعاتها ومدارسها ومرافئها.. حتى أهالي الجنوب والشمال والشرق والخليج يمنون أبناءهم بزيارة جدة، يكافئون أبناءهم إذا نجحوا في المدارس بزيارة جدة.
إذن جدة لم تعد حلوة بأهلها، وإنما أصبحت غندورة أمام قاصديها من كل الأنحاء، أصبحت غنوة يتغنى بها الكبار قبل الصغار.
جدة الرومانسية.. في صباحها الباكر حبات الندى تتساقط على وجه مدينة جدة وتبلل عينيها الناعستين وأنفها المدبب وشفتيها المرتعشتين اللتين تستعدان لتقبيل وجه الحياة.
وفي السماء الغيوم تتسابق صوب البحر، والقمر الممشوق يفرد عضلاته على امتداد الكون، وجدة الحالمة تقف ممشوقة القوام، وتضع في معصمها الأيسر ساعة جميلة هي ساعة الزمن الجميل لكل زائر يزورها، وتلبس في معصمها الأيمن أسورة كتب عليها كل تضاريسها وجبالها ومناخها، وفي الليل تتألق وتلبس شوارعها وقصورها ومتاحفها ومعارضها وأسواقها وحوانيتها فساتين الفرح والحياة.
وأهل جدة كحضارة جدة، متحضرون يحبون الناس، كل الناس ويعتبرونهم ضيوفاً في حضن جدة.
في ليلة صيفية زارني في البيت أخي وصديقي محمد دياب، رحمه الله، وسألني سؤالاً صاعقاً قال: لماذا لا يأبه أهل جدة بوظائفها القيادية؟ فقلت بسرعة: لأنهم متحضرون. وابتسم وقال: لماذا لا يكون لديهم هذا الطموح المشروع؟ ولم أجب عن السؤال لأنني تفهمت ما وراء السؤال!
الناس في جدة كحبات المطر يقفزون هنا وهناك في المعرض والمولات وفي الاستراحات، وبين ملاعب ومطاعم أبحر والكورنيش، وعلى أرصفة منطقة شاسعة تسميها جدة منطقة الحمراء.
وفي النهار تلملم جدة أطرافها، وتخفي كل معالم حيائها، وتخلع فساتين الليل، وتلبس قميص نومها، وتغفو إغفاءة للراحة والسكينة، ثم تغطس في تعسيلة قصيرة وتستفيق على عجل، وكأن الوقت قد أدركها ودهم حياتها المتألقة.
وجدة وهي تبدو كعروس جميلة تقف شامخة أمام البحر تتحدث عن نفسها بثرياتها وأنديتها واستراحاتها وشاطئها الجميل وأسواقها الثرية التي تمتلئ بكل شيء.
حتى نجمة الصبح في سماء جدة، فهي جداوية لا تخفي ابتسامتها حتى تبلغ الفجر وتحافظ على عفتها وعذريتها وطهارتها ولا تسلم نفسها للشمس الحارقة.
جدة تطوى بدنها بمنديل الغسق الشفاف، وفي كل مساء تعلق على ثغرها ابتسامتها المعهودة وتعلن عن نكهتها السعودية الأليفة.
بيت شعر للعملاق حمزة شحاتة يتكئ على رصيف الكورنيش، ويخرج نوافير الأنوار والإبهار ليغازل السياح، وثريات الفرح تتناثر هنا وهناك، وتبرز وسط الزحام قصيدة عصماء قرضها ابن جدة الشاعر الرقيق أحمد قنديل.
وحينما نشم جدة في القصائد، ونقرأها في الكتاتيب وفي الكتب والصحف، فكأننا نشم عودا أصليا جدا لكل مدن المملكة الفتية من أقصاها إلى أقصاها.
جدة كائن لا يبكي ولا يحب البكاء، كائن يحب الفرح ولسان حالها دائماً يقول: ابتسم فأنت في جدة!
جدة تحب الغزل.. تحب أن يتغزل الناس فيها، فهي كالكائن الحي تدغدغها عبارات الفرح والحب، فرائصها تتهلل للمدح وأوصالها ترتاح للثناء، إنها عبقرية المكان، والزمان أيضاً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي