قسوة الصحاري وغدر البحار.. إلى أين يقودان فن أبناء الخليج؟!

قسوة الصحاري وغدر البحار.. إلى أين يقودان فن أبناء الخليج؟!

استمتع بلحظة تأمل شاردة، تغوص في أدب الخليج وفن أهله، يمكنك إعادة اكتشاف كنوز مدفونة، وتوقع كنوز أخرى في الطريق، بها ذات اللوعة والشجن وحرارة مياه الخليج وقسوة الصحاري فيه، قصائد بدر شاكر السياب المغرقة في الحزن، ألحان البحارة وأهازيجهم المحملة بالوجع وشقاء الغربة ولوعة الغياب، وصولا إلى مشاهد الدراما الخليجية المعاصرة، حيث الحزن الطاغي وجه آخر للترف.. يستنطق وجع المتلقي ويعزف أوتار مآسيه.
وجه آخر للتطرف، حيث السخرية اللاذعة والكوميديا السوداء هي البديل المتاح لتراجيديا الحزن المبثوثة في فنون الخليجيين، شعرا ولحنا وأعمالا درامية، فيما من يراقب المشهد الفني العربي بشكل كامل يجد شيئا من ذلك فرضته الطبيعة القاسية، لكنه في المقابل يجد نماذج لأدب وفن معتدل ترسخ لإبداع يستخرج مكامن الجمال في الفنان، ويداعب أهداب الذوق لدى الإنسان في الصورة واللحن وفي الكلمة، وصولا لتسجيل نقاط استحقاق عند الملتقي في القدرة على الإبداع من داخل الواقع، لا من خارجه كما يفعل كثير من فناني الخليج، حيث الإبداع لديهم يخرج من رحم الحزن المختزنة لصنوف القسوة التي عرفها أجدادهم.
تمثل هذه المادة بداية سلسلة تحقيقات عنوانها: "التطرف في الأدب وفي الفن عند أبناء الخليج.. أسبابه ونتائجه"، نحاول من خلالها رصد بعض مظاهر المبالغة الفنية عند الشعراء والفنانين الخليجيين، وصولا لتحليل أبعاد هذه المبالغة وبالتالي تصحيح مسارها، إسهاما في كنوز فنية مقبلة تبدع دون الحاجة لإسباغ مسحة الحزن المبالغ فيها على النصوص الشعرية والدرامية لدى الخليجيين التي صورت مجتمعاتهم بشكل متطرف عند الآخرين.
يشير الناقد محمد الدبيسي نائب رئيس النادي الأدبي في المدينة المنورة إلى لوعة الحزن الحارقة في قصائد الشعراء الخليجيين، ويضرب مثالا بأنشودة المطر لشاعر البصرة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي خاطب الخليج بـ "واهب اللؤلؤ والمحار والردى"، ليصف علاقة أبناء الخليج بهذا المحيط المائي بالعلاقة المعقدة، فهي علاقة إنسان ضعيف فقير بمحيط يجد فيه الرزق والتعب وربما الموت أيضا، حيث شعراء آخرون يتحدثون عن غدر البحر فيما هم قادمون من صحاري قاسية لم يجدوا فيها سوى الجوع والأنين، لكن الدبيسي ألمح إلى أن هذه العلاقة بين الشاعر والخليج لم تكن دوما بهذا التوتر، حيث يعرض إلى نص شعري باهر للشاعر السعودي الراحل محمد بن عواض الثبيتي متحدثا فيها عن الخليج بشيء من الشعور بالقوة والتفاؤل، وربما ذلك يصور الفرق بين الصورة المعاصرة للخليج مع تلك الباقية في الذاكرة خصوصا لأولئك القريبين منه الذين عرفوا فيه معنى الشقاء والسغب.
وهنا جزء من النص الشعري الخالد لبدر شاكر السياب، حيث لوعة الحزن تخلق شعرا جميلا أحيانا عند المبدعين:
تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال:
كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام
بأنّ أمّه - التي أفاقَ منذ عام
فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال
قالوا له: "بعد غدٍ تعود" -
لا بدّ أنْ تعود
وإنْ تهامسَ الرفاقُ أنّها هناك
في جانبِ التلِ تنامُ نومةَ اللحود،
تسفُّ من ترابها وتشربُ المطر
كأنّ صياداً حزيناً يجمعُ الشباك
يعاني المياه والقدر
وينثرُ الغناء حيث يأفلُ القمر
مطر، مطر، مطر
أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟
وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟
وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟
بلا انتهاء ــــ كالدمِ المُراق، كالجياع كالحبّ كالأطفالِ كالموتى ـــــ
هو المطر
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبرَ أمواجِ الخليجِ تمسحُ البروق
سواحلَ العراقِ
بالنجومِ والمحار،
كأنها تهمُّ بالشروق
فيسحبُ الليلُ عليها من دمٍ دثار
أصيحُ بالخليج: "يا خليج
يا واهبَ اللؤلؤ والمحارِ والردى"
فيرجع الصدى كأنّهُ النشيج:
"يا خليج: يا واهب المحار والردى"
أكادُ أسمعُ العراقَ يذخرُ الرعود
ويخزنُ البروقَ في السهولِ والجبال
حتى إذا ما فضّ عنها ختمَها الرجال
لم تترك الرياحُ من ثمود
في الوادِ من أثر
أكادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر
وأسمعُ القرى تئنّ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيفِ وبالقلوع
عواصفَ الخليجِ والرعود، منشدين
مطر.. مطر .. مطر
وفي العراقِ جوعٌ
وينثرُ الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبعَ الغربانُ والجراد
وتطحن الشوان والحجر
رحىً تدورُ في الحقول.. حولها بشر
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلةَ الرحيل من دموع
ثم اعتللنا - خوفَ أن نُلامَ - بالمطر
مطر
مطر
ومنذ أن كنّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطلُ المطر
أصيحُ بالخليج: "يا خليج..
يا واهبَ اللؤلؤ والمحار والردى"
فيرجع الصدى كأنه النشيج:
"يا خليج: يا واهب المحار والردى"
وينثرُ الخليجُ من هباته الكثار
على الرمال، رغوةَ الأجاج، والمحار
وما تبقى من عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
من لجة الخليج والقرار
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
من زهرة يرُبّها الفرات بالندى.
ويعرض الناقد الدبيسي إلى نص شعري خليجي حاول التفاؤل بالصحاري الجرد حين تتأجج بزهو وجه المحبوب وتحتدم فيها صباحات المطر، وبوجه الحبيب "المحتدم بعافية الخليج".
وهنا جزء من النص الشعري "هوازن.. فاتحة القلب" للشاعر السعودي محمد بن عواض الثبيتي حيث يتأوه الدبيسي وهو يتمتم: رحمك الله يا أبا يوسف، هذا النص كان مختلفا متأججا متفائلا في وسط شعري غلبت عليه حالة التعب.
ألقي عليكِ تمائمي وقصائدي الأولى
وأظلُّ طيراً يعتريهِ الرقصُ أو كفّاً بلا
حنّاءَ.. أَحْلمُ بالزمان الرَّحْبِ
والمدنِ الطليقةِ
والقمرْ
لله هذا الوجهُ كيف تأجَّجَتْ فِي زَهوهِ
الصحراءُ واحتَدَمَتْ صباحاتُ المطرْ
لله هذا الوجهُ كيف يَجيءُ مُتوّجاً بالطَّلْعِ
والياقوتِ مُحْتَدِماً بعافيةِ الخليجْ
إنِّي أبوحُ بسرِّكِ البَدويِّ مُحْتفلاً وألقي
في يديكِ شعائرَ الزمن البهيجْ
عَرَّيتُ أسمائي لديكِ
كتبتُ قصيدةً
أجهشت باللحن اللذيذ
تشابكتْ في داخلي مدنٌ، صحارٍ ضاجعَتْها
النارُ فَابْتَرَدَتْ بِماء الغيثْ
يا أيُّها الشجرُ البدائيُّ ابْتكِرْ للطيرِ أغصاناً
وللأطفالِ فاكهةً
أَقِمْ فِي الرملِ ناقوساً طموحاً
واشْتَعِلْ للريح
يا أيُّها الشجرُ الذي طالَ احتقان جذورهِ
بالقيظِ واحترقتْ بلابلهُ على الأسلاكِ
فانقطع الغناءْ
يا ضارباً في الليلِ
يا مُستغرقاً في لجَّة الصحراء
هل غرقت ظلالك فِي المساء؟
هذان النصان المحملان بالإبداع والجمال، قد يكونان من أجمل ما جادت به قريحة شعراء الخليج المعاصرين بحسب النقاد، لكن موضوع التحقيق الصحافي الثقافي مفتوح لكل أنواع الأدب والفنون عند الخليجيين لفتح صفحة أخرى تلامس بعض جوانب إبداعهم وتنتقد أخرى أفرزتها الحالة الثقافية السائدة في فضاءات الثقافة المعاصرة.
لذا فالتحقيق يفتح أبوابه في حلقاته المقبلة لإضافة النقاد والمهتمين بالأدب والفن سواء من أبناء الخليج أو من الوطن العربي الكبير والمتذوقين للغة العربية وجمالياتها في كل مكان.

الأكثر قراءة