«فقه الأخلاق»
تقرأ في نصوص الكتاب والسنة تشريفاً فاضلاً لمقام الفقه في الشريعة، وترى صاحب الرسالة, عليه الصلاة والسلام, يجعل ذلك من أخص مقامات الخيرية التي يصطفي بها الله من يشاء من عباده حين يقول عليه, الصلاة والسلام, كما في الصحيح: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).
وهذا يحدثك أن هذا الدين الخاتم يقوم على الفقه والحكمة، والأخذ له على قدر من الاعتدال الذي يُحقق به مقام الإيمان بالله والعدل ليقوم الناس بالقسط، وترى هذه الكلمة «الفقه» من أبلغ الكلمات حديثاً عن امتياز أهل العلم، بل تعبر بصورة مفتوحة عن حقيقة الاتباع وتفسير الشريعة كما أراد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
إن العناية بتأصيل «فقه الشريعة» وبنائه في نفوس المسلمين يعد من أخص مقاصد التشريع لأنه معنى تحقيق «العلم» بالله سبحانه وما أنزل على نبيه، وهذا الدين أصله العلم الموجب للعمل، وهذا الاتصال بين المتلازمين «العلم والعمل» إنما يتحقق بالفقه الذي ندبت الشريعة أهل الإسلام إليه.
إن الفقه هنا يتجاوز الاصطلاح الخاص الذي رسم به أهل الاصطلاح أسماء العلوم فتراه مقتصراً على أبواب من فقه الشريعة في العبادات والمعاملات، فيما عُرف بالفقه اصطلاحا، إن هذا جزء من الحقيقة الشرعية العامة لكلمة «الفقه» التي تقرأ فيها دخول هذه الكلمة على سائر مقامات الشريعة في «الإيمان، والعبودية، والتشريع، والأخلاق» وغير ذلك.
وإذا كان أئمة الفقهاء تحدثوا كثيراً في مفصل مسائل الفقه في أبواب من الشريعة فإن من أخص ما يقصد إلى الفقه فيه مقام «الأخلاق» التي تتجاوز في مراد الشريعة مجموعة خاصة من أدب الناس وذوقهم إلى «تزكية صادقة للنفس البشرية، وضبط لموازين الناس فيما بينهم» وحينما تقرأ الأخلاق على سعة من الفهم والإدراك لمقاصد الشارع منها وعنايته بمقامها تصل إلى إدراك لمعنى قول عائشة عن نبي هذه الأمة, عليه الصلاة والسلام, وقد سئلت عن خلقه: (كان خلقه القرآن) . إن الأخلاق هنا مقام من العبودية لله، والإحسان للخلق، والاعتدال مع النفس، والله كما أمر بعبادته فقد أمر بالبر والقسط والعدل والإحسان، وبقدر ما تكون الأخلاق عدلاً وإنصافاً تبني نظام الحقوق فإنها تكون صلة ورحمة ومحبة بين المؤمنين، تبني جميل المشاعر وكريم الطباع، وترى هدي الإسلام فصلاً محكما لنظام العلاقة بين الناس، يباعد النفس عن «الفوضى والجهل» إلى أفق «العلم والأدب» لكن يبقى مع هذا الوضوح الذي نقرأه في كلمات الشريعة نوع من الفراغ في فوات كثير من التطبيقات الأخلاقية داخل بعض المجتمعات حتى ربما صار من الإلف لدى البعض أن تُجهل حقيقة الأخلاق وأثرها في التوازن البشري في هذه الأرض.
وإذا كان من لطيف النظر كون الفقه هو المثل الفاضل لتفسير الأخلاق فإن صادق النظر يفيد بأن الفقه نفسه بحاجة إلى الأخلاق، بل لا تتصور فقهاً صحيحاً إلا من نفس عاقلة عادلة، وقد كان بعض أهل الأصول والفقه كالإمام ابن تيمية، والجويني، وابن حزم يذكرون في مقام المجتهد في الشريعة أن يكون «فقيه النفس».
وترى أن الله جمع مقام العلم والأخلاق في ذكر مقاصد الشريعة والرسالة في قوله تعالى: ?ربنا وابعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم?.