رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الخدمة المدنية.. تصرح لنفسها

فاجأتنا وزارة الخدمة المدنية قبل أسابيع بمشروعها الذي عرضته في وسائل الإعلام بطريقة تشعر من خلالها أنها قدمت لمنسوبيها أضخم برنامج تنموي، فقد قدمته للرأي العام كمشروع استراتيجي ونقلة نوعية في مجال الرقابة الإدارية لم يسبق لها مثيل. فقد كشفت صحيفة ''عكاظ'' الأسبوع الماضي أن الخدمة المدنية تعتزم تطبيق نظام البصمة على موظفيها في جميع فروعها بداية شهر رجب المقبل. وأضاف المصدر أن وزير الخدمة المدنية قد وجه بتنفيذ ذلك على الوزارة والفروع التابعة لها بعد نجاح البصمة في بعض الجهات الحكومية والقطاع الخاص. وأضاف أيضا أن هناك أكثر من 150 إدارة حكومية بحسب النظام الإداري في جميع المناطق دون الوزارات لا تطبق نظام البصمة على إداراتها، موضحا أن نسبة تطبيق البصمة لا تتجاوز 1 في المائة وهي نسبة ضعيفة حسب تصريح الوزارة. وبين التصريح أن النظام الدفتري السائد في جميع الإدارات الحكومية ثبت فشله وعدم جدوى استمراره.
وقيض في ذهني تصريح الوزارة هذا وتغنيها بمشروعها الفريد عدة تساؤلات وكشف لنا بعدها عن قيمها الجوهرية ومهامها الحقيقية. فمن التساؤلات التي لم نجد لها إجابة مقنعة كيف عرفت أن النظام الدفتري لإثبات حضور وانصراف الموظفين انتهى عهده؟ وكيف توصلت الخدمة المدنية إلى السر الذي لم يسبقها إليه أحد في أن نظام البصمة يمثل قفزة في عالم الرقابة الإدارية؟ إن الحكم على نجاح أو فشل مشروع ما يحتاج إلى إثبات وبراهين والخدمة المدنية لم تقدم أي إثبات لجميع الأحكام التي أصدرتها فقد قررت أن النظام الدفتري نظام فاشل، والبصمة هي النظام البديل المنقذ، وترى أن على الجميع أن يصدقها، وليست في حاجة إلى تقدم الدليل فالقول ما قالت حذامي.
إن نظام البصمة الذي تتسابق إليه جميع منظماتنا وترى الخدمة المدنية أنها قد أتت بما لم يأت به الأوائل عندما أقرت تفعيله في جميع إداراتها هو أسلوب عقيم وقليل الفائدة وضرره أكثر من نفعه، وليس معنى هذا أن الأسلوب القديم المتمثل في توقيع الموظفين في كشوف دفترية هو الوضع المثالي، بل كل منهما أسوأ من الآخر. والذي أعنيه هنا أن التطور في مجال رقابة الموظفين خاصة المدنيين لا يتمثل في إثبات حضورهم، بل في زيادة إنتاجيتهم وأساليبنا في ذلك بدائية، وعدائية، وغير حضارية، كما أنها تشكك في العنصر البشري وكأنها تقول للموظفين: إنكم مجموعة من الرعاع، وكلكم موضع شك، وعلينا مراقبتكم حتى لو اضطررنا إلى سماع دقات قلوبكم، والتجسس على سلوكياتكم، والتنبؤ بنواياكم. قد يناسب نظام البصمة بعض الجهات في بعض مؤسسات الدولة والقطاع الخاص في بعض الجهات الاستثنائية كرقابة رجال الأمن لبعض المواقع الاستراتيجية وموظفي النقاط الحرجة كالحدود ونحوها ومراقبة الذخيرة والمخازن، أما رقابة المدنيين بهذه الطريقة البوليسية فهو أسلوب عقيم يولد الكثير من الأحقاد، والعتب، ويغرس في قلب الموظف الإهمال والإحباط والرغبة في التسيب، والانتقام، والتمرد، وقلة الولاء وكثرة تكوين المنظمات غير الرسمية.
لذا أقترح على الخدمة المدنية ومن في حكمها، وكل إدارة حكومية وغير حكومية تتغنى بتفعيل نظام البصمة أن تفترض في الموظف الأمانة والمصداقية وحب العمل، وهو كذلك وإن كان هناك من يشذ عن هذه القاعدة فأنظمتنا الإدارية وطريقتنا البوليسية في رقابة الموظفين هي التي كونت بداخلهم هذه الآفات. كثير من المنظمات في الدول المتقدمة والأقل نموا تراعي الحس الإنساني، وتتوقع الحسن من الموظفين في المنظمات المدنية، فنراها تبتعد عن إهانة الموظف، وكل ما يمس كرامته والتشكيك في أمانته، وتوقيع الموظف من أجل إثبات حضوره صباحا وانصرافه بعد الظهر هو بالفعل تشكيك في أمانته وتجريح لكرامته. وعلماء الإدارة والموارد البشرية يرفضون مثل هذه الآليات لإثبات حضور الموظفين التقليدية منها والإلكترونية، والتطور الحقيقي والتنمية الإدارية الفعلية تتمثل في إلغاء دفتر الحضور والانصراف وتحطيم نظام البصمة ووالله إنني أحترم الإدارة وأجل قياداتها وأحترم خبراتها حتى أرى جهاز البصمة يختبئ بين أروقتها فأعرف أنهم لا يعرفون من إدارة الموارد البشرية شيئا يذكر.
أما الجانب الآخر لتصريح الخدمة المدنية بخصوص تفعيل نظام البصمة الذي نشرت خبر تطبيقه في وسائل الإعلام هو بعدها عن قيمها الجوهرية ورسالتها التنظيمية. فالمواطنون لا يهمهم طريقة الخدمة المدنية في رقابة موظفيها، ولا يهمهم كم عدد طاقمها الوظيفي ولا هيكلها التنظيمي، ولا أقل من ذلك ولا أكثر. المواطنون ينتظرون من الخدمة المدنية إنجازها وتقدمها في الأعمال التي تمس احتياجاتهم وتحقق طموحاتهم. المواطنون يلاحظون أن الخدمة المدنية تتحاشى جهلا أو عمدا الولوج في قضاياها الجوهرية الشائكة ومشكلاتها الأزلية المعلقة، والذي يؤكد ذلك تصريح الوزارة حيال تطبيق نظام البصمة. كنا نأمل من الوزارة أن تهتم بالمعضلات وتركز على المعوقات وتهتم بقيمها الجوهرية وثغراتها التشغيلية التي تعيشها منذ أزل، وفي مقدمتها معالجة معضلة البطالة وتوفير وظائف تليق بحجم هذا الوطن، وترقى إلى طموحات المواطن وتغيير التصنيفات الوظيفية البالية واللوائح التنظيمية العتيقة، فهذا بالضبط هو صلب عملها وسبب وجودها، ونحن لم نر أي تقدم في هذا المجال رغم تغيير وزيرها وبعض قياداتها. نأمل من الوزارة إذا أرادت أن تظهر للإعلام وتنشر شيئا من منجزاتها للناس أن تحترم عقولنا، فتظهر لنا ما يهمنا وليس ما يهمها، وتصريحها الأخير هذا لا يمت إلى ذلك بصلة ويحق لنا أن نقول: إنه تصريح لنفسها!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي