استراتيجية وزارة الصحة هل هي استراتيجية وزارة أم مستشفيات؟
خصخصة الخدمات الصحية لم يكن الخيار الأفضل حسب الدارسات العلمية، كما ذكرت في مقال سابق، لكن هناك فرق بين أن يدرس المشروع من قبل خبراء وأن يعطي الخبراء الغطاء الشرعي لقرارات الوزير. مع الأسف - إن الاستعانة بالمكاتب الاستشارية أصبحت ظاهرة تعطي الغطاء الرسمي لعديد من الوزارات من أجل تمرير عديد من القرارات بدعوى أنها تمت دراستها من قبل مختصين.
عند الاطلاع على استراتيجية وزارة الصحة أصبت بحالة من الإحباط لتلك الاستراتيجية، بل إن الرؤية الموضوعة داخل الاستراتيجية مبالغ في توقعاتها ومخرجاتها ومبالغ في مثاليتها. من المصادفات العجيبة أن رؤية وزارة الصحة قدمت كدراسة حالة –case study كنموذج للمبالغة في التوقعات في إحدى الجامعات العريقة في بريطانيا. فما يعرف بترتيب الأولويات التي تسعى أي وزارة العمل وفقها غائبة لأن الوزارة تعتقد أنها يمكنها عمل كل شيء، ما يفقدها التركيز على كل شيء.
وكنت قد استبشرت بتأسيس مجلس استشاري لوزارة الصحة عام 2009 في مقال كان عنوانه: ''فلسفة تقديم الخدمات الصحية .. الهوية نبيلة والطريقة غائبة''، لكن عند قراءة الاستراتيجية وجدتها استراتيجيات مستشفيات لا استراتيجية وزارة تنظر إلى الحالة الصحية للبلد، وليس فقط تقديم رعاية صحية.
فمثلا عند مراجعتي استراتيجية وزارة الصحة المنشورة في موقع الوزارة وجدتها خطة لإدارات المستشفيات وليست خطة لنظام صحي عام. كنت أتمنى أن تكون استراتيجية وزارة الصحة قد نظرت لنظامنا الصحي نظرة تكاملية، وليس فقط العلاقة بين مستشفياتها وكيفية تطويرها. فمثلا لم تتطرق الاستراتيجية لقضايا مهمة جدا، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقة على مستوى الأنظمة الصحية، وليس فقط بين مستشفياتها وكيفية تطويرها.
فمثلا لم تتطرق الاستراتيجية لقضايا تمويل الخدمات الصحية، خصوصا أن أحد أهم أسباب إقرار التأمين الصحي كان بسبب ضعف آليات تمويل الخدمات الصحية. كما أن الاستراتيجية الصحية لم تتطرق إلى كيفية رصد الميزانيات مستقبلا وكيفية صرفها وآلية اعتماد الميزانيات السنوية وشكلها، فنظام اعتماد الميزانيات لدينا line item budget هل سنستمر في هذه الطريقة البدائية نفسها لمدة عشر سنوات قادمة؟ كما لم تتطرق إلى كيفية بناء علاقة تكاملية بين مقدم الخدمة ومشتريها وبائعها.
من المضحك المبكي أني قد كنت كتبت مقالا عن ميزانية وزارة الصحة وآلية اعتمادها، لكن فوجئت بأن وزارة الصحة عبر علاقاتها العامة ردت على المقال بطريقة تدل على عدم استيعابها فحوى المقال!.
من الأبجديات التي تسعى دول العالم إلى تحقيقها الفصل بين مقدم الخدمة ومشتريها، بل إن إحدى أهم ميزات الأنظمة الصحية المتقدمة على اختلاف أنظمة تمويلها (نظام تأمين اجتماعي أو نظام صحي خاص أو ضرائبي) هي تحديد أولوية الصرف الصحي. بل إن أحد أسباب أننا دولة في طور التنمية هي افتقار أنظمتنا الصحية إلى أسس النظام الصحي الحقيقي.
مع الأسف - أن وزارة الصحة لا يوجد فيها من يهتم بجوانب مفصلية لأي وزارة صحة ككيفية الصرف على الخدمات الصحية وآلية رسم العلاقات المختلفة بين مقدم ودافع ومشتري الخدمة، بل إن ما يوجد في الوزارة تحت اسم اقتصاديات الصحة لا يتجاوز دوره النظر في استثمارات ممتلكات وزارة الصحة، بينما تشكل قضية تمويل الخدمات الصحية وبناء العلاقة بين الأطراف المختلفة الجناح الأبرز في العديد من وزارات الصحة حول العالم، خصوصا الوزارات التي لديها هدف تقديم الرعاية الصحية الشمولية.
إن وجود جهة ذات صلاحيات موسعة تعنى بوضع السياسات والأنظمة وطرق التمويل ليست ظاهرة مقصورة فقط على الدول المتقدمة عالية الدخل، بل إن دولا محدودة الدخل كتايلاند توجد فيها مثل هذه الإدارة وتلعب دورا حيويا في رسم السياسات الصحية لتايلاند، بل إن دولة كتايلاند استطاعت أن تضع لها خططا استراتيجية ''حقيقية'' تهدف إلى وصول الخدمات الصحية لكل المواطنين التايلانديين على الرغم من محدودية موارد البلد المالية كما هو معلوم. لكن القرارات التي تصدر من قبل وزارة الصحة التايلاندية قرارات مرجعها المتخصصون في السياسات والأنظمة الصحية لا الممارسون الصحيون الذين لا يعوون أبجديات النظم الصحية وطرق تمويلها، لذا فالمرجعيات العلمية تغص بالعديد من الأوراق العلمية التي تحكي بعضا من جوانب التمويلية التايلاندية. فالقرارات الصحية في تايلاند مرجعها متخصصون من أهل البلد ممن درسوا في جامعات عريقة عن كيفية تمويل الخدمات الصحية وهو ما تفتقر إليه وزارة الصحة حاليا. بل لا توجد في وزارة الصحة إدارة معنية ترسم النظرة المستقبلية لكيفية تمويل الخدمات الصحية مستقبلا، فهذه الإدارة كان الأولى أن تؤسس وتتولى زمام التخطيط الفعلي للوزارة.
وللحديث بقية.