اتجاهات النمو في الاقتصاد السعودي .. الإيرادات العامة
تطورت الإيرادات العامة في المملكة على نحو كبير خلال العقود الأربعة الماضية، سواء من الناحية المطلقة أو كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ففي عام 1970 اقتصر إجمالي الإيرادات العامة للدولة على 7940 مليون ريال فقط، منها 7122 مليون ريال إيرادات نفطية، كانت تمثل نحو 29 في المائة من الناتج المحلي للمملكة. غير أنه مع فورة أسعار النفط في منتصف السبعينيات أخذت الإيرادات العامة للمملكة، بصفة خاصة الإيرادات النفطية، في النمو بصورة جوهرية، ففي خلال عقد السبعينيات بلغ متوسط الإيرادات العامة للدولة 112458 مليون ريال مثلت في المتوسط نحو 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مرتفعة للغاية، تعكس التركز الشديد لهيكل الناتج المحلي الإجمالي في القطاع النفطي خلال ذلك العقد كما سبقت الإشارة.
شهد عقدا الثمانينيات والتسعينيات تراجعا واضحا في أسعار النفط الخام وتراجعت معه بالتالي نسبة النمو في الإيرادات النفطية، ولذلك اقتصر متوسط الإيرادات العامة للدولة في عقد الثمانينيات على 167243 مليون ريال مثلت 23.8 في المائة فقط من الناتج المحلي، كذلك اقتصر متوسط الإيرادات العامة خلال التسعينيات على 183493 مليون ريال، مثلت 24.7 في المائة من الناتج المحلي، ويعكس هذا التراجع في نسبة الإيرادات العامة للدولة إلى الناتج المحلي الإجمالي حقيقة أن الإيرادات العامة غير النفطية هشة للغاية لدرجة أنها لا يمكن أن تعوض المالية العامة للدولة عن التراجع في إيراداتها النفطية.
من ناحية أخرى، شهد العقد الأول من الألفية الثالثة نموا هائلا في الإيرادات العامة للدولة، وعلى نحو غير مسبوق في تاريخ المملكة بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار النفط الخام التي شهدها هذا العقد، فقد بلغت الإيرادات العامة 228159 مليون ريال في عام 2001، منها 183915 مليون ريال إيرادات نفطية، وفي عام 2011 قفزت الإيرادات العامة إلى 1106667 مليون ريال منها 1026467 مليون ريال إيرادات نفطية، وهو ما رفع متوسط الإيرادات العامة خلال هذا العقد إلى 587850 مليون ريال، نتيجة لهذه التطورات لا بد أن ترتفع نسبة الإيرادات العامة إلى الناتج والتي بلغت في المتوسط 38.7 في المائة، بل إنه في عام 2011 بلغت نسبة الإيرادات العامة إلى الناتج المحلي 47.5 في المائة، وهو ما يعكس عودة اعتماد الناتج المحلي الإجمالي بصورة مكثفة على الإيرادات النفطية. إن مثل هذه التقلبات الحادة في الإيرادات العامة لا توفر الاستقرار المطلوب في المالية العامة للدولة، وهذا هو مصدر الخطورة في الهيكل الحالي للإيرادات العامة في المملكة.
الشكل رقم (1) يوضح نسبة الإيرادات النفطية وغير النفطية إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة من 1970 إلى 2011، ويلاحظ من الشكل أن نسبة الإيرادات النفطية إلى الناتج المحلي الإجمالي تميل إلى التقلب بصورة واضحة من سنة مالية إلى أخرى بسبب تقلب أسعار النفط بصفة أساسية، والواقع أن هذا النمط لاتجاه إجمالي الإيرادات العامة في المملكة يضع صانع السياسة المالية في مأزق، ربما لا تبرز جوانبه طالما أن أسعار النفط مرتفعة والمالية العامة في وضع مريح، غير أنه عندما تميل أسعار النفط نحو التراجع، فإن هشاشة وضع المالية العامة للدولة تتضح بصورة أكبر، وهذا مصدر الخطورة في الهيكل الحالي للإيرادات العامة للمملكة، لأسباب عدة أهمها أن هذا المصدر الرئيس للإيرادات العامة مصدر ناضب بطبيعته، في الوقت الذي يتضاءل فيه الإسهام النسبي للضرائب وغيرها من مصادر الإيرادات غير النفطية التي تمثل المصادر التقليدية للإيرادات العامة في باقي دول العالم.
إن تقلب أسعار النفط الواضح وفقا لأوضاع السوق العالمية للنفط الخام يضع المالية العامة للدولة برمتها تحت رحمة التطورات في هذه السوق، ومن الواضح أنه في ظل هذا الهيكل لم تتمكن المملكة من تطوير هيكل بديل للإيرادات النفطية يساعدها على إحداث قدر من الاستقرار في الإيرادات العامة في حال ميل الأوضاع في السوق العالمية للنفط الخام إلى التطور على نحو معاكس، ويمكنها من أن تضمن استقرار عمليات تمويل الإنفاق العام للدولة في حال تراجع الإيرادات النفطية دون اللجوء إلى السحب من احتياطياتها أو الاقتراض.
يلاحظ من الشكل أيضا أن نسبة الإيرادات غير النفطية إلى الناتج تتناسب عكسيا مع نسبة الإيرادات النفطية إلى الناتج، فمع ارتفاع أسعار النفط وزيادة الإيرادات النفطية، تتراجع نسبة الإيرادات غير النفطية إلى الناتج نظرا لانخفاض قيمتها بشكل عام من الناحية المطلقة، وضعف علاقتها بالناتج، أي عدم نموها بشكل عام مع نمو الناتج من ناحية أخرى، وهو أمر متوقع. إذ إنه مع نمو الإيرادات النفطية وارتفاع نسبتها إلى الناتج تتراجع نسبة الإيرادات غير النفطية بالتبعية إلى الناتج نظرا لضعف هيكلها بشكل عام، وتشير بيانات العام الماضي إلى تراجع نسبة الإيرادات غير النفطية إلى أقل من 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وهو تطور خطير يعكس ضرورة إعادة النظر في هيكل هذه الإيرادات والعمل على أن تكون أكثر ثباتا واستقرارا كنسبة من الناتج، الأمر الذي يستدعي ضرورة تقييم تلك الإيرادات بصورة شاملة والبحث بجدية في إدخال هيكل جديد للضرائب على قطاعات الأعمال المختلفة في المملكة، وإعادة النظر في غيرها من الرسوم المختلفة كي تتماشى حصيلة هذه الإيرادات مع النمو الحادث في الناتج، لا أن تتراجع مع نمو الناتج كما هو حادث حاليا.
الخلاصة هي أن هذه التطورات الأخيرة في الإيرادات العامة للدولة توحي للمتابع بأن المالية العامة للمملكة في وضع قوي للغاية في الوقت الحالي، غير أن السلوك التاريخي لها يشير إلى أن المالية العامة تعاني خللا هيكليا واضحا، حيث تتسم بالتركيز الشديد للإيرادات في مصدر شبه وحيد تقريبا، وهو الإيرادات النفطية في الوقت الذي تتضاءل فيه مساهمة الإيرادات غير النفطية على نحو واضح، وتنعدم فيه تقريبا المبادرات لتعديل هياكل الإيرادات العامة بحيث لا تقتصر فقط على مصدر واحد للإيرادات، الأمر الذي يعرض المالية العامة للدولة لعدم الاستقرار الناجم عن التقلب المستمر فيه. كما أن مثل هذا التركز الشديد للإيرادات العامة يعرض المالية العاملة لمخاطر شديدة في المستقبل نظرا لأنه ليس من المتوقع أن يستمر العالم في الاعتماد على النفط الخام كمصدر أساسي لتوليد الطاقة دون أن يطور بدائل له، وهو ما قد يعرض المالية العامة للمملكة لمخاطر حقيقية في المستقبل.
شكر وتقدير: أتوجه بالشكر إلى الدكتور محمد عباس لمدي بسلسلة البيانات الخاصة بالمالية العامة للمملكة والتي على أساسها تقوم مقالات المالية العامة.