ضريبة الأراضي.. فشة خلق أم بحث عن حل؟
تلقيت كماً من الاعتراضات الموضوعية على مقالة الأسبوع الماضي المتعلقة بوعورة فرض ضرائب على الأراضي البيضاء. نقل العبء الضريبي كان المحور الرئيسي للانتقادات، فمجموعة من القراء غير مقتنعة بأن العبء الضريبي يمكن تمريره لشخص آخر. ولعل أبرز من تحدث في هذه الجزئية الدكتور القدير صالح السلطان في مقالة سابقة قرأتها وأتفق مع فكرتها العامة وأختلف في جزئياتها. ومقالة الدكتور تستند إلى نظرية مثالية تصدق في الظروف المثالية بافتراضاتها المعروفة أكاديميا، ولكن تغيب عنها عدة عناصر سأحاول التطرق لها لتبرير عدم انطباقها على موضوعنا. إن تمرير العبء الضريبي يعتمد في أساسه على عنصرين مرتبطين بمرونة الأسعار، أحدهما في العرض والآخر في الطلب، ولهذا إذا كان هناك احتكار في العرض غير مبال بتغير التكاليف ـــ فرض ضريبة ــــ و/أو ارتفاع في الطلب غير متأثر بسلعة ما ، فقد لا تنطبق النظرية.
ولهذا فوجود منافسة سواءً في العرض أو الطلب، بمعنى وجود أراض أخرى مطلوبة تلبي الاحتياج، أو قدرة الناس على إشباع احتياجهم بوسائل أخرى، قد يغير المعادلة، فيرضى بعض ملاك الأراضي بربحية أقل، أو حتى لو بخسارة، أو خفض المصاريف التشغيلية الأخرى، أو رفع أسعار بعض الخدمات المقدمة ـــ استخراج فسوح البلدية مثلا ـــ لاجتذاب مشترين أكبر للأرض التي يملكها. وكلما اشتدت المنافسة تفتقت أذهان البائعين عن صور تميزهم عن منافسيهم يبرر الثمن المدفوع. ولهذا، فالمحتكر تفشل هذه النظرية معه. فتحكم المحتكر بالعرض يعني ببساطة قدرته على إضافة التكلفة على القيمة وتمريرها للمستهلك النهائي إذا لم يكن للمستهلك خيار آخر مع احتياجه وقدرته. مثال تبسيطي: لو افترضنا أنه لا توجد إلا أرض واحدة متاحة للبيع اشتراها شخص من مالكها الأصلي بمبلغ 100 ريال (عرض غير مرن ـــ غير متأثر بالتكلفة الإضافية). لو فرضنا عليه ضريبة سنوية قدرها 10 في المائة من قيمة الأرض. ولو افترضنا أن الطلب مرتفع (طلب غير متأثر بارتفاع الأسعار). لا أعتقد أن أحدا سيجادل في قدرة هذا الشخص على تمرير الـ 10 في المائة مع ربحية مجزية فيما لو باع الأرض. وعليه، لو افترضنا أن العرض من الأراضي شحيح ـــ وهو كذلك إلى حد ما ــــ فزيادة التكاليف على ملاكها لن تؤدي بالضرورة إلى زيادة المعروض من تلك الأراضي بأسعار أقل. نعم هي احتمالية معقولة وقد تحدث ولكن وهذا الأهم هي ليست نتيجة تلقائية بل تحكمها عدة عوامل خارجة عن السيطرة وصعبة التنبؤ.
علاوة على ذلك، ففرضية أن العرض ضعيف بسبب عدم وجود تكلفة قد لا يكون صحيحاً، وهو افتراض جوهري بنى عليه المنادون بفرض ضرائب كل حججهم. فهناك تكلفة الزكاة وليس صحيحاً أن كل ملاك الأراضي ضعيفو التدين ولن يدفعوا زكاة سواء للدولة أو لمستحقيها مباشرة. كذلك، هناك تكلفة الفرصة البديلة. فمن يضع أمواله في أرض بدلا من استثمارها في شيء آخر كمن فوت على نفسه فرصة الحصول على عائد ما، مقابل توقعه الحصول على عائد أكبر من جراء تملكه الأرض. فبدلا من استثمار في سندات تعطي 5 في المائة مثلا سنويا، يرتضي مالك الأرض الإبقاء على أرضه نظير توقعه الحصول على مكسب أعلى. وعليه فتكلفة استثماره في السنة الأولى تعادل الزكاة 2.5 في المائة مضافا لها العائد المفوت 5 في المائة. وهكذا في كل سنة. بمعنى أن هناك تكلفة على مالك الأرض سنوية شعر بها أم لم يشعر. وهذا يدل على أن ارتفاع أسعار الأراضي ليس بالضرورة سببه عدم وجود تكلفة على الأراضي، بل هو شيء آخر. قد يكون الطلب الهائل غير المبالي بتغير الأسعار.
ويعقد المسألة أكثر أن كثيرا من الأراضي البيضاء مملوكة من زمن طويل بتكلفة منخفضة، أو مملوكة لمجموعة مساهمين تزيد في تمييع العبء وتخفف وطأة تحمل الضريبة لوقت طويل نسبياً. وهذا قد يؤدي إلى عودة استمرار الطلب -حتى لو تأثر بشكل مؤقت تبعاً لفرض ضريبة على الأراضي ــــ فالمسألة ستصبح في نهاية المطاف أيهما أكثر صبراً وأشد عوداً، ملاك الأراضي أم الراغبون ـــ المحتاجون لها. لهذا فمن ناحية العرض فتأثره بزيادة التكلفة غير مأمون فقد يمررها الملاك لغيرهم، أو يغصون بها وهو احتمال أبعد من وجهة نظري.
أما من ناحية الطلب، فمعلوم أن الطلب على سلعة ما قد يتغير إذا تغير السعر إما لوجود بدائل وإما بتغير الأذواق. فلو فرضت ضريبة على مشروب غازي وارتفع سعره، قد يتوجه الناس إلى العصائر أو الألبان أو قد يتوقفون عن استهلاك كل هذا ويكتفون بالماء. في الأراضي لا يوجد بديل إلا الآن، إلا الأراضي. والذائقة المسيطرة في المجتمع ـــ انطباعي الشخصي ـــ أنها لا تزال ترغب منزلاً مستقلا بقسم للرجال وآخر للنساء، وعائلة متوسطها أربعة أفراد. وعليه فارتفاع تكلفة الأراضي لو افترضنا أن البائعين قاوموها ـــ ولو لفترة وجيزة ـــ وأضافوها لقيمة الأراضي المعروضة، فإن الطلب ـــ ذا البدائل المنعدمة والأذواق شبه الجامدة ــــ سيبقى غير متأثر وفي ارتفاع متنام حتى حين. فإن كان الطلب على الأراضي مرتفعاً وغير آبه بأي زيادة ـــ معقولة نسبياً حسب قوة الدخل ــــ فالعبء الضريبي يمكن تمريره وابتلاعه في خضم أمواج الطلب المتلاطم، هذا حتى لو كانت هناك منافسة قوية، دع عنك أن المنافسة ليست مثالية في هذا القطاع والنتيجة، أن العرض ''محدود'' و''بلا منافسة شرسة''، والطلب ''متنام'' بشكل مؤداه هو ابتلاع العبء الضريبي بسلاسة.
ولهذا يبقى الحل الأنجع ــــ في نظري ــــ هو تدخل الدولة في التأثير على العرض والطلب عبر طرحها لأراض جديدة في السوق بأسعار منخفضة، أو عبر إنماء القرى المتاخمة للمدن الرئيسة بوسائل متعددة، مثل الإقراض للمساكن وتشجيع المستثمرين ــــ وأخص صغارهم ــــ بكل الحوافز المؤثرة لتحقيق مآرب أخرى علاوة على توفير مساكن للمواطنين. دون ذلك، ستبقى مشكلة الإسكان معلقة وأشك في قدرة الضريبة على معالجتها، وإن كانت ستشفي ــــ مؤقتا ـــ بعض ما في النفوس تجاه بعض الأثرياء من ملاك العقار.