المأسسة والمساءلة والاستقرار
بعد عدة شهور أمضاها في التحضير لرسالة الماجستير في العاصمة البريطانية لندن، استقبل أحد الأصدقاء زوجته وابنه الصغير في مطار هيثرو، حيث وضعت صغيرها في حضنها وجلست كما هو معتاد لدينا في السعودية إلى جانب زوجها، ولكن ما لم يكن بالحسبان أن يوقفهما رجل المرور ليحرر مخالفة مرورية لعدم الالتزام بالأنظمة المرورية، ويحذر الزوجة ــ بعد أن قدم لها محاضرة في حقوق الطفل ــ من أن تجلسه بهذه الطريقة وإلا أحالها إلى الجهات المختصة بالشؤون الاجتماعية التي قد تطبق بحقها النظام، وتحيل الطفل إلى دور الرعاية الاجتماعية لحمايته من ضعف اهتمامها بسلامته، حيث تعرضه لخطر الحوادث من إصابات وكسور وربما شلل أو وفاة وهو الضعيف الذي لا حيلة له.
والسؤال الأول: هل هذا الشيء موجود لدينا؟ بالطبع لا، والسؤال الثاني: لماذا هذا الأمر موجود لديهم وليس موجودا لدينا؟ والإجابة أن الغرب لم يترك أي علاقة بين طرفين أو أكثر في أي شأن أو مجال ـ وكما هو معتاد هناك طرف أو أطراف قوية وآخر أو أخرى ضعيفة ـ إلا ووضع لها الأنظمة والإجراءات بما في ذلك أنظمة الرصد والضبط والمساءلة والمعاقبة، مع الأخذ بوثيقة حقوق الإنسان كوثيقة مرجعية تنظم العلاقات بشكل عام بين الأطراف القوية والأطراف الضعيفة في ثنائيات مثل (الزوج والزوجة، الكبار والأطفال، الشرطة والمجرمين، القضاة والمتهمين، الأطباء والمرضى، وهكذا)، ومن ثم وزع الغرب هذه الأنظمة كمهام على المؤسسات والأجهزة الحكومية دون أن يترك أياً منها لضمير أو أخلاقيات أفراد المجتمع فقط، في حين أننا تركنا الكثير من العلاقات دون نظام ودون إجراءات ودون مؤسسات أو أجهزة حكومية معنية، وإذا فعلنا ذلك فإننا نفعله دون مرجعية واضحة ومحددة ودقيقة، كما هي وثيقة حقوق الإنسان التي ترتب العلاقات والحقوق بشكل مفصل وموثق.
ولا شك أن حقوق الطفل على والديه أحد هذه العلاقات والحقوق التي تركناها لضمير الوالدين وأخلاقياتهما دون نظام أو إجراءات أو مساءلة، ولذلك تجد الطفل في حضن والده الذي يقود السيارة معرضا حياته للهلاك دون أن يجد نظاما يمنعه ويحيله إلى الجهات المختصة التي توجهه أو تنذره أو تعاقبه، نعم فكل ما نراه في هذا التصرف مخالفة مرورية، لأن الوالد قد ينشغل عن القيادة فيعرض حياته أو حياة أو ممتلكات الآخرين للخطر، أما حقوق طفله الذي يلقى حتفه لو فتحت الوسادة الهوائية بسبب حادث بسيط فهو لا أمر لا يعنينا.
أيضا حقوق المرأة من ميراث وزواج ونفقة واحترام وكرامة ما زالت تعتمد بشكل كبير على ضمير وأخلاقيات أفراد المجتمع، ولا أنظمة وإجراءات ومؤسسات ترصد وتضبط وتسائل وتعاقب أو تحيل إلى الجهات القضائية، ولذلك تجد رجلا يضرب زوجته ويطردها خارج المنزل في جو شديد البرودة ويحرمها من رؤية أولادها ولا يخاف من نظام أو إجراء أو عقوبات تقتص منه.
نحمد الله أننا منذ عدة سنوات بدأنا في تفعيل بعض المؤسسات التي لديها أنظمة وإجراءات، إلا أنها ما زالت ضعيفة، كما بدأنا بمأسسة وتنظيم الكثير من العلاقات في الكثير من المجالات، ومن ذلك هيئة السوق المالية التي نظمت فوضى الطروحات العامة التي أدت إلى ضياع المليارات من حقوق الطرف الأضعف في المساهمات العقارية وما شابهها من مساهمات، ومن ذلك هيئة الغذاء والدواء التي نتوقع منها أن تكون أكثر صرامة في تنظيم فوضى طرح الأدوية والأغذية للاستهلاك الآدمي دون نظام أو إجراءات ودون عقوبات صارمة في حال مخالفة تلك الأنظمة من قبل أيا كان بما في ذلك الأجهزة الحكومية التي يتساهل بعض موظفيها في إدخال المواد الغذائية والأدوية غير المطابقة للمواصفات المعيارية.
ومن ذلك الهيئة العامة للطيران التي نتطلع لأن تنصف أفراد المجتمع بالحصول على مقاعد سفر في الوقت المناسب وبالسعر المعقول خصوصا في مجال الرحلات الداخلية التي من الصعب تخطيطها بسبب سرعة رتم الحياة وكثرة متغيراتها ومفاجآتها وأن تحد من الاحتكار وسوء الخدمات ومعاناة المسافرين، وذلك عبر تنظيم سوق الطيران ورفع درجة تنافسيته بما يرفع من جودة الخدمات وينوعها كما هو في الدول المتقدمة، ومن ذلك هيئة الإسكان التي تحولت إلى وزارة والتي ما زلنا نتطلع إلى أن تطرح استراتيجيتها للتصدي للمشكلة الإسكانية على المديين القصير والطويل، وأن تتعاون مع أمانات المدن والبلديات للحد من التعدي على الأراضي وتحويلها من ملكيات عامة إلى ملكيات خاصة، تجعل من المشكلة الإسكانية ككرة ثلج تتدحرج وتكبر بمرور الوقت.
والأمثلة كثيرة ومتعددة والمأمول كبير فالفجوة ما زالت كبيرة بين المنشود وفق المعايير الدولية وبين الواقع، ولا شك أن ترك العلاقات في أي مجال أو قضية دون نظام وإجراءات ومساءلة سيدفع بالأمور إلى الفوضى (فوضى المساهمات العقارية سابقا مثالا) وإلى هضم الحقوق من قلة مستفيدة على حساب الأغلبية المتضررة التي ستشعر بالظلم والغبن الذي قد يختلط بالفقر في أحيان كثيرة، وكلنا يعلم أن الظلم والفقر هما الخلطة الرئيسية للفوضى وعدم الاستقرار المجتمعي.
ختاما أود أن أبين أن ''المساءلة'' الصارمة دون تساهل أو تهاون مع أيا كان وفق أنظمة وإجراءات معيارية وما يترتب عليها من ضبط وربط وعقوبات قضية هامة وحاسمة في مستقبل الدول واستقرارها وقدرتها على مواجهة التحديات وتحقيق طموحات وتطلعات الشعوب، وكلنا ثقة بحكمة القيادة لتعزيزها مؤسسيا ونظاميا وعمليا لتحقيق الرضا المعزز للاستقرار الذي ننشده جميعا كعنصر مهم وحيوي لبيئة معززة للتنمية في مجالاتها كافة.