بداية البحث عن«ساينفيلد» في الرياض بعد أول عرض «استاند أب»

بداية البحث عن«ساينفيلد» في الرياض بعد أول عرض «استاند أب»
بداية البحث عن«ساينفيلد» في الرياض بعد أول عرض «استاند أب»

نشأ فن ''الاستاند أب كوميدي'' قبل سنوات طويلة لكن ظهوره الأول في المملكة جاء في ظرف الأسابيع الماضية فحسب، لقد تساءل الجمهور المحلي حينها عن الطريقة المناسبة للتفاعل مع نمط إبداعي لم يحدث أمامهم من قبل، أو لنقل إنه حدث كثيرا في الآونة الأخيرة خلف كاميرات اليوتيوب وليس على الهواء الطلق مباشرة وأمام جمهور كبير من الأشخاص الذين يتوقع كل واحد فيهم أن يكون جزءا ولو عابرا من فاصل فكاهي طويل، ينصح فيه أصحاب الخبرة المشاهدين بعدم مقاطعة المتحدث الكوميدي لأنه سيتعامل مع هذا بروح رياضية عالية، لكنه في الوقت ذاته سيقرر أن يجعل منك محورا مستمرا للتندر!
التجربة مثيرة بالنسبة إلى مشاهد معتاد على حضور الندوات ويعرف أن الضحك في أثناء حديث المحاضر سيكون تصرفاً غير سوي، وهي لن تقل إثارة بالنسبة إلى المشهد الثقافي فيما لو أصبح رجلا و اختار مكاناً متقدماً وجلس ليستمتع بحديث كوميدي متواصل يقوم به شخص لا يقل مستوى أريحيته مع الجمهور عن حجم مقدرته على التقاط تفاصيل الحياة اليومية ببراعة وتحويلها إلى مادة للسخرية بأسلوب يتكامل بين لغة الجسد ومقامات الصوت، بين إيحاء المفردة المتداولة وإيماء النظرة المعبرة، المشهد الثقافي لن يتحمل الثواني القصيرة التي يمر فيها أي شيء عابر أمامه فيحول دون تركيزه البصري على كوميديان ممسكا بـ''المايك'' ومستغرقاً في سرد وتمثيل حكايته في لحظته واحدة، سيضحك من طرافة ما يسمع ويرى ولكنه سيفكر في اللحظة ذاتها: ''يا إلهي، إنه نشاط ثقافي أقل ضجيجا من المسرح ، وأوسع جماهيرية من الشعر الشعبي، وأكثر متعة من المعارض التشكيلية وجلسات النقد، أخف دماً من النقاشات الفكرية والمسلسلات التهريجية، والأهم من ذلك أنه أقل تكلفة من كل ما سبق!''
في فن الاستاند أب الكوميدي، يكون الأمر حقيقيا أكثر، إنه الميدان الأكثر حسماً فيما يتعلق بفض الالتباس الذي قد يحدث في فنون أخرى، بين موهوب فعلي وآخر مزيف، الطريفة الفطرية في تقديم المنتج الإبداعي لا تحتمل المونتاج كما أن رد الفعل المباشر لا يحتمل بقاء شخص ليتحدث قرابة ساعة كاملة بنصف موهبة، وعندما تتحدث عن شخص من نوع جيري ساينفيلد الذي يعد نموذجا عالمياً بارزا ومعروفا في هذا المجال، فإن عليك أن لا تنخدع بالهندام الرزين والهيئة الجادة التي تحيل غالبا إلى شخصية مدير عام، لأن الرجل سيتحول فيما بعد إلى مقلد أصوات، ومسرحي، ومطرب، ومذيع وغيرها من الكركترات بحسب ما يتطلبه الموقف، ناهيك عن أنه سيطرح أفكارا من صميم حياة كل بيت، سيمثل أكثر من شخصية ضمن مونولوجات داخلية بكل ما يتضمنه ذلك من تعابير الوجه والحركة والكلمات.

#2#

إذا كان المهرج التقليدي يستخدم مؤثرات بصرية على هيئته ليبدو مثيرا للفكاهة فإن الاستاند أب الكوميدي سحر الشخصية البسيطة في جعل منتجه فكاهياً، كما أنه لن يكون مضطرا لفعل أو قول أشياء غير ذات معنى، إنه الفن الذي يعيد إنتاج الواقع ويرتكز على مفارقاته كي يؤكد للمشاهد أن ''مجرد التعليق على أمر ما، بطريقة ما قد يكون أمراً رائعاُ يجعلنا نرى الأشياء بطريقة مختلفة''، لن يخلو النموذج المثالي لإنتاج عرض ستاند أب كوميدي ناجح من مهارات شخصية مرتبطة بخفة ظل الفنان ومواهبه الخاصة، كما لن يخلو من معطيات موضوعية فالأمر له كذلك خلفياته الثقافية والاجتماعية القابلة دائما لإعادة قراءتها وتجسيدها، إنها منظومة من القصص والمواقف الطريفة التي ستحيل ذهن مشاهدها دائما إلى نقد ظاهرة، أو لفت نظر، أو تقييم فعل، أو استنتاج نتيجة، أو تمرير رسالة، أو تخيل مشهد مواز متجدد لملايين المشاهد في الحياة.

قبل قرابة نصف ساعة من العرض الأول الذي شهدته الرياض، كان الشاب الأسمر خالد خليفة الذي يرتدي زياً رياضياً بسيطاً يتفقد تجهيزات الصوت ويثني على الشبان المتواجدين في الصفوف الأولى ''كم أحب الالتزام بالوقت'' قبل أن يعلق بإنجليزيته التي تشوبها لكنة أمريكية مبررة منطقيا بالنظر إلى مكان ولادته ''أعدكم أنها ستكون ليلة رائعة''، كانت الإطلالة الأولى للممثلة ''ماكشورتي'' التي علقت بطرافة على تقديمها، ''قد لا أكون الكوميدية الوحيدة في الشرق الأوسط .. لكن يمكن القول إنني المضحكة بينهم'' قبل أن تبدأ فاصلا تناولت فيه جانبا من ممارسات الشباب غير المفهومة في الشوارع، تساءلت حول ما إذا كان يمكن اعتبار تلك الطريقة في إخراج الأيدي من نوافذ السيارات وتحريكها على نحو لولبي رقصة ذات ارتباط ثقافي بالمكان كما هو الحال في التانغو والسامبا مثلا، تناول بعدها ''ثامر الحازمي'' بعض المفردات المحلية وما إذا كانت تعبيرات مناسبة عن معانيها، جاء السعودي ''خالد خليفة'' بدوره لينتقد بحس كوميدي عال عددا من الظواهر الاجتماعية معتمدا على أسلوب القصص القصيرة والتعليقات الآنية، لقد كان خليفة عند وعده لشباب الصف الأول، قبل أن يظهر ''آل دوشارم'' بطاقة صوتية جبارة وموهبة غير اعتيادية في التقاط الأفكار الكوميدية وتقديمها، ليعقبه ''نمر أبو نصار'' وهو أول ممثل هزلي عربي يقدم عرضاً لمشاهدين أمريكيين، وفي كل الفقرات السابقة نجح المنظمون في السفارة الأمريكية في توظيف التكوين الثقافي المتنوع في كل فنان مشارك ليكون عنصرا مهماً لنجاح العرض، بل كان مكمن السحر تماماً، هناك تسمع خطابا إنجليزيا رشيقا وبسيطا يفاجئك بين وهلة وأخرى بمفردة محلية محضة.

انتهى العرض ، وما زال هذا الفن يحشد نفسه ويصنع مشهده ونجومه عبر ثورة التقنية ووسائطها كثقافة مجتمعية وإبداعية لا يمكن الاستهانة بها، موهوبو ''الاستاند أب'' في كل مكان وليس على المشهد الثقافي سوى أن يعترف بهم فهم أبناء المسرح وأقارب الإلقاء وأبناء عمومة النقد والسينما ويجمعهم نسب مع الروائيين من ناحية الحكاية، الأكثر أهمية من البحث عن شجرة العائلة السابقة .. ليس أن نعرف أن مواهب الاستاند أب اليوتيوبية قد خطفت إعجاب مثقفين توقفوا عند قدرتها على صناعة التأثير .. بل أن نستظل بمفهوم الثقافة الأوسع .. كي نؤمن بأن الكوميديا قارة غير مكتشفة ما زالت تنتظر ''على محمل الجد''!

الأكثر قراءة