تراجع أسعار الوقود يعيد رسم الساحة الأمريكية

تراجع أسعار الوقود يعيد رسم الساحة الأمريكية

للأسبوع التاسع على التوالي تسجل أسعار الوقود للمستهلكين الأمريكيين انعكاسا لتراجع سعر البرميل إلى أدنى معدل له منذ شباط (فبراير) الماضي. وبصورة عامة يمكن القول بحدوث تراجع بمقدار 25 في المائة منذ آب (أغسطس) الماضي.
ورغم هذا التراجع الذي فرض على منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) البحث في سبل خفض الإنتاج، إلا أن بعض المستثمرين أمثال بوني بيكنز، الذي يدير صندوقا للطاقة تمكن خلاله من جني ثلاثة مليارات دولار، يرى أن الأسعار يمكن أن ترتفع ثانية إلى 70 دولارا للبرميل قبل لن تهبط إلى 50 دولارا. على أن الاتجاه العام يتحدث عن ضعف في الأسعار.
هناك طبعا الأسباب المتعلقة ببروز مؤشرات على حدوث ضعف في الطلب خاصة في الاقتصادين الأمريكي والصيني، وأن معدلات الأسعار العالية خلال الأشهر القليلة الماضية بدأت تلقي بثقلها وتأثيرها، هذا إلى جانب تعايش الصناعة النفطية مع المهددات الأمنية والتطورات الجيوسياسية التي تلقي بظلالها على الساحة النفطية، وعلى رأسها تحسن وضع الإنتاجية الفائضة، الأمر الذي يمكن من التعويض عن أي انقطاع في الإمدادات لأي سبب من الأسباب.
لكن إلى جانب ذلك، هناك احتمال يتلخص في قيام الإدارة الأمريكية بالتلاعب بالأسعار لخفضها استعدادا لفترة الانتخابات النصفية للكونجرس الشهر المقبل. ويعزز من هذا الاحتمال الاستطلاع الذي قامت به صحيفة "يو. إس. توداي"، الذي خلصت فيه إلى أن 42 في المائة من الذين تم استطلاعهم يعتقدون أن إدارة بوش تقوم بالتلاعب فيما يتعلق بأسعار الوقود، خاصة والإدارة تواجه متاعب فيما يتعلق بحملتها العسكرية في العراق، وفضائح سياسية، وهي تحتاج في النهاية إلى الإيحاء بوجود إنجازات تقدمها للناخبين بعد سيطرة الجمهوريين على مفاصل السلطة التشريعية والتنفيذية، بل وحتى القضائية إثر التعيينات التي قام بها بوش للمحكمة الدستورية العليا.
ويشير هؤلاء إلى خطوتين رئيسيتين تدعمان نظرية التلاعب بالأسعار، أولاهما قيام الإدارة بوقف عمليات الشراء لملء الاحتياطي النفطي الاستراتيجي. وثانيها قيام شركة جولدمان ساكس بتعديل الثقل الذي كان يتمتع به الوقود في مقياس السلع بطريقة تدفع المستثمرين إلى التخلي عن مواقع المضاربة في قراراتهم الاستثمارية، وجزء منها كان يخص الصناديق التي تنشط في مجال النفط.
بالنسبة للعامل الأول، فبالفعل قررت وزارة الطاقة منذ حزيران (يونيو) الماضي، وعلى لسان وزير الطاقة، أنها ستوقف في آب (أغسطس) عمليات الشراء لملء المخزون النفطي، وهي العملية التي بدأت منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2001، في مرحلة ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) كوسيلة لدعم أمن الطاقة الأمريكي. عمليات الشراء تلك التي كانت تتم بمعدل 200 ألف برميل يوميا، كانت تهدف إلى أن يصل حجم الاحتياطي إلى 700 مليون برميل، الأمر الذي سيضيف إلى الاحتياطي 159 مليون برميل، وفي تقدير وزارة الطاقة أنه بالإمكان تحقيق الهدف في غضون شهرين من إعلانها ذلك.
أما فيما يتعلق بخطوة "جولدمان ساكس"، فإن الانتباه إليها جاء من واقع أن مديرها السابق هو هنري بولسون، وزير الخزانة الحالي لإدارة بوش. ومع أنه من الصعب تصور أن يقوم بولسون بتوجيه الشركة للقيام بالخطوة التي أحدثت تأثيرا فيما يتعلق بقرارات الاستثمار، إلا أن ما جرى يثير شيئا من الغبار لجهة أنه نتيجة لقرار خفض الثقل المعياري للنفط من 8.72 في المائة إلى 2.31 في المائة في مقياس الشركة للسلع التي يتم الاستثمار فيها، فإن هذا يعني أن أي دولار يتم استثماره فإن كميات أقل من السنتات ستذهب إلى هذا الجانب.
ولاحظت صحيفة "نيويورك تايمز" في مقال لها، حدوث تراجع في عقود البنزين بنحو 8 في المائة، وذلك بعد شهرين من التعديل الذي أدخلته "جولدمان ساكس". ومعروف أن صناديق الاستثمار والتحوط تتعامل في مبالغ استثمارية تصل إلى 90 مليار دولار، ولعبت إلى حد كبير دور الدافع للسوق والأسعار إلى أعلى، ولذلك فإن أي تقليل لنشاطها ستكون له انعكاساته على الأسعار ومن ثم على المستهلكين. وساعد على تزايد اللغط حول هذه الخطوة أن "جولدمان ساكس" لم تبذل أي جهد لشرحها أو توضيحها، رغم أن الإجراء يعود إلى حزيران (يونيو) وبدأ تنفيذه بعد ذلك بشهرين.
من الناحية الأخرى، فالملاحظ تراجع الاهتمام السياسي بموضوع أسعار الوقود مقارنة بما كان عليه الوضع عندما تجاوز سعر البرميل 75 دولارا وتجاوز سعر الجالون للمستهلك ثلاثة دولارات، وقتها تتالت مشاريع القوانين من أعضاء مجلسي النواب والكونجرس التي تتناول ضرائب الأرباح واستدعاء مديري الشركات النفطية للإدلاء بشهاداتهم حول قضايا التلاعب بالأسعار، بل وحتى التساؤل عن الرواتب والمزايا التي يحصلون عليها مثلما حدث مع سلم راتب المدير التنفيذي السابق لشركة إكسون موبيل.
لكن نواب المجلسين ذهبوا في العطلة المخصصة للحملة الانتخابية الشهر المقبل دون أن يجيزوا أي من مشاريع القوانين التي تكاثر الجدل بشأنها، وعلى رأس هذه حدود المناطق المغمورة التي يمكن السماح بالحفر فيها وفتحها أمام الشركات للتنقيب. كذلك لم يحدث شيء فيما يتعلق بعدد الأميال التي يمكن للسيارة قطعها عبر استهلاك جالون من الوقود. فنظم رفع المعايير التي تؤدي إلى تحسين أداء الماكينات لم تتغير منذ 1985، بل إن أحد المشاريع في هذا المجال التي نجحت في تخطي الخلافات الحزبية وتبناها كل من ريتشارد لوجار الجمهوري وباراك أوباما الديمقراطي لم تر النور.
في أواخر الشهر الماضي كتب ريد كافاني الرئيس والمدير التنفيذي لمعهد البترول المريكي، الذي يمثل مصالح الصناعة، خطابا مفتوحا لأعضاء الكونجرس أشار فيه إلى تراجع سعر جالون الوقود بنسبة 18 في المائة منذ خطابه الأخير لهم قبل شهرين، وأنه في بعض الولايات أصبح الجالون يباع بأقل من دولارين، وعزا ذلك إلى أن رد فعل السوق تمثل في زيادة الإمدادات وتراجع في الطلب. وأضاف أن التركيز أصبح الآن على زيت التدفئة مع اقتراب فصل الشتاء، ولو أن عملية الانتقال من متطلبات الصيف ستكون أفضل هذه المرة بسبب تحسن وضع الاستعداد مقارنة بالعام الماضي. وبيّن أن زيت التدفئة تراجعت أسعاره بنسبة 15.1 في المائة خلال فترة الشهرين الماضيين، كما أن المصافي زادت من طاقتها التشغيلية وهي تعمل الآن بطاقة 94 في المائة، بزيادة 3.2 في المائة عما كانت عليه قبل عام.
وحذر كافاني من أن السوق النفطية تتميز بحالة من التقلبات، الأمر الذي يجعل من حدوث انقطاع مفاجئ في الإمدادات أمرا واردا لأسباب جيوسياسية. وبما أن الولايات المتحدة تعتمد على النفط الأجنبي لتوفير 60 في المائة من احتياجاتها، فإن هناك حاجة إلى إتباع أسلوب متوازن لمواجهة التحديات التي يفرضها هذا الوضع. وأشار إلى أن الصناعة من جانبها تسعى إلى تحسين وسائل استخدامات الطاقة، لكن هناك الكثير المطلوب عمله وهو يلح على الكونجرس السعي لفتح المزيد من المساحات أمام عمليات التنقيب وتسهيل إجراءات التراخيص التي تسمح بالإنتاج فوق اليابسة، ومستشهدا بالاكتشاف النفطي الذي تم في المياه المغمورة في خليج المكسيك أخيرا ولم يكن منتظرا قبل بضع سنوات، ليقول إن الشركات مستعدة لإنفاق مليارات الدولارات في مختلف مجالات الصناعة وتقنيتها لتطوير الموارد المحلية.
ولخص بول بليدوس مدير الاستراتيجية في اللجنة الوطنية لسياسات الطاقة، الوضع بقوله إن هذا العام بدأ بإعلان بوش عن الإدمان الأمريكي على النفط الأجنبي، وهاهو العام يكاد ينتهي دون حدوث أي خطوة ملموسة لتخفيف الاعتماد على الخارج لتلبية الاحتياجات المحلية المتنامية للاستهلاك النفطي. ويبدو أن السبب يعود إلى تراجع السعر لدى المستهلك في محطة تعبئة الوقود، وبالتالي تراجع ضغوط الرأي العام.
وفي هذا الخصوص أشار التقرير الأسبوعي لمعهد البترول الأمريكي في نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي، أنه حتى السابع من آب (أغسطس) سجل سعر جالون الوقود من كل الأنواع تراجعا بلغ في المتوسط 65.4 سنتات، أو 21.2 في المائة وفق حسابات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية. وللأسبوع الثامن على التوالي تتراجع أسعار الوقود في محطات التعبئة للمستهلكين. وإذا أخذ عنصر التضخم في الاعتبار فإن سعر الجالون اليوم يظل أقل من القمة التي بلغها في آذار (مارس) 1981 بفارق 23.6 في المائة.
يذكر أن أهم تغيير منذ ذلك الوقت وعلى امتداد ربع قرن من الزمان إنما يتمثل في الضرائب. فالضرائب اليوم تشكل 46.8 سنت من قيمة الجالون، ونحو 18.4 سنت منها عبارة عن ضرائب فيدرالية و28.4 سنت ضرائب ولائية، بينما في 1981 كانت الضرائب الفيدرالية تصل إلى 32.5 سنت للجالون. ومع أخذ عنصر التضخم في الاعتبار، يبدو أن النسبة تصل إلى 44 في المائة.
ومقارنة بما كانت عليه الأوضاع عقب إعصاري كاترينا وريتا العام الماضي، فإن السعر تراجع 18.4 في المائة، أو 54.8 سنت، وهذا ما يعود إلى التكلفة المنخفضة للتصنيع، التوزيع، والتسويق للبنزين، حيث تراجعت تكلفة هذه العمليات بنحو 49.6 سنتات للجالون منذ العام الماضي.

الأكثر قراءة