أوروبا والكابوس المقبل
إذا لم تكن التداعيات الاقتصادية المرتبطة بعجز اليونان الكامل عن سداد ديونها مروعة بالقدر الكافي، فيبدو من الواضح الآن أن العواقب السياسية قد تكون أسوأ وأضل سبيلا. إن تفكك منطقة اليورو بشكل فوضوي من شأنه أن يؤدي إلى إلحاق الضرر على نحو لا يمكن إصلاحه بمشروع التكامل الأوروبي، الذي شكل الركيزة الأساسية للاستقرار السياسي في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. فهو لن يؤدي إلى زعزعة استقرار البلدان المثقلة بالديون على أطراف أوروبا فحسب، بل وأيضا البلدان الأساسية مثل فرنسا وألمانيا، التي أسست للمشروع الأوروبي.
وقد يكون الكابوس الذي لا يقل ترويعا أن ينتصر التطرف السياسي على غرار ما حدث في ثلاثينيات القرن الـ20، حيث كانت الفاشية والنازية والشيوعية نتاجا لردود الفعل المناهضة للعولمة التي ظلت تتراكم منذ نهاية القرن الـ19، والتي تغذت على هموم الفئات المحرومة التي شعرت بالتهديد والحرمان من حقوقها من قِبَل قوى السوق المتوسعة والنخب العالمية.
آنذاك، كانت أمور مثل التجارة الحرة ومعيار الذهب سببا في التقليل من أهمية الأولويات المحلية مثل الإصلاح الاجتماعي، وبناء الدولة، وترسيخ الثقافات. ولم تكن الأزمة الاقتصادية وفشل التعاون الدولي من الأسباب التي أدت إلى تقويض العولمة فحسب، بل وأيضا النخب التي كانت تناصر النظام القائم.
ونتيجة لهذا فإن المخاوف المتزايدة بشأن تآكل الأمن الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي، والهوية الثقافية، لم يعد من الممكن التعامل معها من خلال القنوات السياسية الرئيسة. فقد أصبحت الهياكل السياسية الوطنية مقيدة على النحو الذي يمنعها من تقديم العلاجات الفعّالة، في حين ظلت المؤسسات الأوروبية أضعف من أن تستقطب الولاء لها.
ولم تقتصر ردود الفعل المعاكسة على بلدان منطقة اليورو. ففي أماكن أخرى مثل الدول الإسكندنافية، دخل إلى البرلمان في العام الماضي حزب الديمقراطيين السويدي، وهو حزب ذو جذور نازية، بنحو 6 في المائة من الأصوات الشعبية. وفي بريطانيا أشار استطلاع رأي حديث إلى أن ما يقرب من ثلثي المحافظين يريدون أن تنسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لقد تغذت الحركات السياسية المنتمية إلى اليمين المتطرف على المشاعر المعادية للمهاجرين تقليديا. ولكن عمليات الإنقاذ اليونانية والإيرلندية والبرتغالية وغيرها من عمليات الإنقاذ، إلى جانب المتاعب التي يواجهها اليورو، كانت لهم بمثابة ذخيرة جديدة. ومن المؤكد أن المتشككين في أوروبا وجدوا في هذه الأحداث التبرير والدعم لشكوكهم. فحين سُئِلَت ماريان لوبان أخيرا عما إذا كانت قد تنسحب من اليورو بقرار من جانب واحد، أجابت بكل ثقة: ''عندما أتولى الرئاسة فإن منطقة اليورو قد لا تظل موجودة في غضون بضعة أشهر''.
لقد ألزم ساسة أوروبا الوسطيون أنفسهم باستراتيجية في ''توسيع أوروبا'' كانت أسرع من أن تخفف من المخاوف المحلية، ولكنها رغم ذلك لم تكن سريعة بالقدر الكافي لخلق وحدة سياسية أوروبية شاملة حقيقية. فقد ظلوا لفترة أطول مما ينبغي عالقين على مسار وسيط غير مستقر وعامر بالتوترات. وبالتمسك برؤية لأوروبا أثبتت عدم قابليتها للتطبيق، فإن النخب الوسطية في أوروبا تعرض للخطر فكرة أوروبا الموحدة ذاتها.
على المستوى الاقتصادي، يتلخص الخيار الأقل سوءا الآن في ضمان تنفيذ التخلف الحتمي عن سداد الديون والانسحاب من منطقة اليورو بشكل منظم وجيد التنسيق بقدر الإمكان. وعلى المستوى السياسي أيضا يتطلب الأمر إدراك الواقع بشكل مماثل. إن الأزمة الحالية تتطلب إعادة التوجه بشكل صريح بعيدا عن الالتزامات المالية الخارجية والتقشف، وباتجاه معالجة الهموم وتلبية الطموحات الداخلية.
اليوم، لم تعد المسألة ما إذا كانت السياسة قد تصبح أكثر شعوبية وأقل دولية؛ بل إن السؤال المطروح الآن يدور حول ما إذا كان في الإمكان التعامل مع العواقب المترتبة على هذا التحول من دون أن تتفاقم الأمور سوءا؟.. ولكن في السياسة الأوروبية، كما هي الحال في الاقتصاد الأوروبي، بات من الواضح الآن أن الخيارات الجيدة لم تعد متاحة - ولم يتبق سوى الخيارات الأقل سوءا.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.