رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


فاعلية أدوات إدارة السياسة النقدية

تعنى السياسة النقدية بالإجراءات اللازمة التي تمكّن السلطات النقدية من موازنة عرض النقود داخل الاقتصاد الوطني بما يتوافق وتوجهات هذا الاقتصاد وتطوراته. يتم تنفيذ السياسة النقدية عن طريق جهازها الإداري المعروف بالمصرف المركزي. يستخدم المصرف المركزي أدوات مختلفة لتنفيذ السياسة النقدية. تتباين طبيعة هذه الأدوات وجدوى استخدامها بتباين القراءة الحالية للتطورات الاقتصادية واستشراف مستقبلها واختلاف نتائجها. وعلى الرغم من عمليات التطوير التي تتم في أدوات إدارة السياسة النقدية بما يمكنها من تحقيق نتائج أكثر إيجابية على الاقتصاد الوطني، إلا أن التساؤلات مازالت قائمة حول جدوى تعميم استخدام أدوات إدارة سياسة نقدية في أي اقتصاد وطني يواجه أزمة اقتصادية بغض النظر عن مستوى نمو هذا الاقتصاد الوطني.
صدرت دراسة الأسبوع الماضي عن صندوق النقد الدولي تهدف إلى الإجابة عن هذه التساؤلات. صدرت الدراسة بعنوان ''أتستطيع المصارف المركزية للدول الناشئة تأمين مصارفها التجارية: قصة تحذير من أمريكا اللاتينية''. هدفت الدراسة إلى دراسة تأثير استخدام أدوات إدارة سياسة نقدية مجدية من منظور الاقتصادات المتقدمة في استقرار اقتصادات ناشئة. أجريت الدراسة على 28 أزمة مالية حدثت خلال الأربعة عقود الماضية في 16 دولة من دول أمريكا اللاتينية. تباينت أنواع هذه الأزمات المالية من أزمات كبيرة وشاملة وأزمات صغيرة ومحدودة. تناولت الدراسة بالتحليل مسببات كل أزمة مالية من هذه الأزمات الـ 28، وتناولت كذلك بالقياس أدوات السياسة النقدية التي استخدمت لمواجهة هذه الأزمات الـ 28. خرجت الدراسة بمجموعة من الملاحظات القيمة حول جدوى أدوات إدارة السياسة النقدية.
من الأزمات الكبيرة أزمة مصارف البرازيل في 1994 عندما أعيدت هيكلة 18 مصرفا تجاريا تربو قيمتها السوقية الإجمالية على نحو 35 في المائة من إجمالي القيمة السوقية للنظام المصرفي البرازيلي. ومن الأمثلة أيضا أزمة النظام المصرفي الفنزويلي عندما انهار قرابة 17 مصرفا فنزويليا في 1994 تربو قيمتها السوقية الإجمالية نحو 62 في المائة من إجمالي القيمة السوقية للنظام المصرفي الفنزويلي. ومن الأمثلة أيضا أزمة النظام المصرفي الأرجنتيني عندما انهار 52 مصرفا تجاريا في غضون ستة أعوام خلال 1995 ـــ 2001. أزمات مالية استطاعت أن تحتل صفحات من التاريخ الاقتصادي بما يمكننا من مدارستها بما يساعدنا على تفسير التطورات الحالية في الأنظمة المالية واستقرار مستقبلها الاقتصادي.
شهدت الأرجنتين خلال تلك الفترة نهضة تنموية شاملة عمت بنفعها معظم جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. عزيت أسباب النهضة التنموية الشاملة إلى برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي ارتكز على ربط العملة الوطنية بالدولار الأمريكي، وإنشاء مجلس اقتصادي تنفيذي للإشراف على الارتباط النقدي، وفتح الاقتصاد الوطني للمستثمر الأجنبي والتجارة الدولية، وتخصيص مجموعة كبيرة من مؤسسات القطاع العام. سرعان ما آتت ثمار البرنامج أكلها عندما بدأ الاقتصاد الأرجنتيني الدخول في مرحلة نهضة تنموية شاملة. فانخفض معدل التضخم، وزادت وتيرة تدفق الاستثمار الأجنبي، وسجل الاقتصاد معدل نمو سنوي قارب 5.7 في المائة.
تزامنت هذه النهضة التنموية مع ثلاثة تطورات في السياسة المالية الأرجنتينية. الأول التوسع في الإنفاق الحكومي على مشاريع البنى التحتية دون رفع نسب الضرائب. والثاني الاعتماد على المصارف الأرجنتينية لتمويل مشاريع الإنفاق الحكومي قبل وضع حدود ائتمانية. والثالث افتراض أن النهضة التنموية الحاصلة من النوع المستديم عوضاً عن المؤقت دون وضع سياسة إدارة مخاطر مالية لتفادي العواقب عند حدوث عكس المفترض.
استمرت هذه النهضة التنموية حتى 1996 قبل أن تحد من درجة نموها وتدخل الاقتصاد الأرجنتيني في دوامة ركود اقتصادي حتى 2002. وضعت هذه التطورات برنامج الإصلاح الاقتصادي أمام تحديين: الأول بلوغ الحكومة الأرجنتينية حدها الائتماني لدى المصارف الأرجنتينية بسبب استنفاد هذا الحد في تمويل برنامج التوسع في الإنفاق الحكومي. والثاني عدم تجاوب المصارف الأجنبية لتوفير التمويل اللازم لدعم الصادرات الأرجنتينية للأسواق العالمية. والثالث توقف برنامج معالجة الدين العام والمقر مسبقاً بالتنسيق مع المصارف الأرجنتينية بسبب عدم وجود السيولة الكافية.
لم تجد الحكومة الأرجنتينية أمام هذه التحديات الثلاثة سوى إقرار سياستين ماليتين جديدتين؛ الأولى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لترتيب تمويل مناسب يساعدها على مواجهة هذه التحديات، والسياسة الثانية تعليق عمل مجلس العملة وفك ارتباط البيسو الأرجنتيني بالدولار الأمريكي. انعكست هاتان السياستان في المدى القصير على مستوى معيشة المواطن الأرجنتيني مطلع 2002. فسجلت السلع ارتفاعاً ملحوظاً وصل قرابة 40 في المائة، وزاد معدل البطالة حتى قارب 25 في المائة، وبلغ الدين العام 155 مليار دولار أمريكي، وانخفضت قيمة البيسو الأرجنتيني إلى 3.5 مقابل الدولار الأمريكي الواحد بعد أن كانت تساوي بيسو أرجنتينياً واحداً فترة التسعينيات الميلادية.
تحمل نتائج الدراسة في طياتها مجموعة من الفوائد حول دور أدوات إدارة السياسة النقدية في مواجهة الأزمات المالية. من هذه النتائج تشابه أدوات إدارة السياسة النقدية مع حدوث كل أزمة مالية؛ حيث يقوم المصرف المركزي في بداية الأزمة المالية بضخ سيولة إضافة في النظام المصرفي لتمكين المصارف التجارية التي تواجه أزمة توافر سيولة من مواجهة تحدياتها. ثم تستمر هذه الأداة حتى تستنفد المصارف ضماناته المقدمة للمصرف المركزي نظير الاستفادة من السيولة الإضافية. ثم يقوم المصرف المركزي بعد ذلك بترتب عمليات تمويل لتمكين المصارف المتضررة من مواجهة أزمتها بعد تقديم ضمانات كفيلة بإعادة هيكلتها التنظيمية والمالية.
وعلى الرغم من تكرر السيناريو في كل أزمة مالية، إلا أن الجدوى تباينت من أزمة مالية إلى أخرى. يقودنا ذلك إلى التأكيد على أهمية استدامة تطوير أدوات إدارة سياسة نقدية تتواءم وطبيعة واقع الاقتصاد الوطني ومستقبله. فالأدوات التي أثبتت التجارب جدوى توظيفها في اقتصادات متقدمة خلال معاصرة هذه الاقتصادات لأزمات مالية ليس بالضرورة أن تحقق ذات النتائج عند توظيفها في اقتصادات ناشئة خلال معاصرة هذه الاقتصادات لأزمات مالية جديدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي