«وول ستريت» وحان وقت الحساب
حركة ''احتلوا وول ستريت'' التي بدأت نشاطها الفعلي يوم 17 سبتمبر الفائت بأعداد وفعاليات متواضعة، بدأت تتحول إلى ظاهرة سياسية - اجتماعية بانتشارها في أكثر من مئة وخمسين مدينة أمريكية وبانضمام قطاعات شعبية واسعة، خاصة من طلاب الجامعات ونقابات العمال والمثقفين، ومن ثم انتشارها في نحو 25 دولة من أكبر اقتصاديات العالم على شكل اعتصامات ومظاهرات.
وبحسب ما نقلته صحيفة كريستيان ساينس مونيتور، تقول نينا إيلياسوف عالمة الاجتماع في جامعة ساذرن كاليفورنيا: ''مهما كانت الأمور التي ستحدث، فإن حركة احتلوا وول ستريت ستبقى، نحن في لحظة تشهد هوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء أكثر من أي وقت مضى منذ عام 1929؛ لهذا يجد الناس أنفسهم مرغمين على الاندماج في العمل السياسي''.
والسؤال الذي يدور في خلدي كما يدور في خلد كل مهتم بالشأن الاقتصادي هو: هل حان وقت الحساب لوول ستريت الذي يمثل ''بارونات'' أمريكا ليصار لنظام سياسي واقتصادي بديل أكثر كفاءة وعدالة مما هو قائم حاليا؟
حركة احتلوا وول ستريت قامت في نيويورك ضد سيطرة 1 في المائة من الأمريكيين على الثروة وعلى إدارة العملية السياسية والقرار السياسي، إضافة إلى معظم الوسائل الإعلامية المؤثرة في الولايات المتحدة، أي أنها قامت ضد 1 في المائة هم ''بارونات'' أمريكا الذين تغولوا على غالبية الشعب الأمريكي (99 في المائة) حتى جعلوه مجرد عمالة في إقطاعياتهم الرأسمالية، بل إن تغولهم تجاوز حدود أمريكا بكثير حيث تغولوا على معظم شعوب العالم، حيث نهب ''بارونات أمريكا'' معظم ثروات الشعوب، فضلا عن فرضهم أنظمة سياسية قمعية في كثير من الدول لتحقيق مآربهم.
والحديث حول ''بارونات أمريكا'' حديث ذو شجون، وهو حديث يتم في السر وفي العلن، ويتحدث عن ''بارونات'' ذات موروث اقتصادي ومالي طويل يمتد لأكثر من ستة قرون، ''بارونات'' حيث يقال إن بعضهم يمتلك البنك الفيدرالي الأمريكي الخاص، ولها اليد الطولي في صياغة النظام المالي العالمي والسيطرة عليه لصالحهم، ولقد كان البعض يطرح بعض أسرار هذه ''البارونات'' على استحياء، حتى جاءت ثورة الإعلام الاجتماعي الذي أظهر الكثير من هذه الأسرار وطرحها أمام الناس الذين ارتفعت درجة وعيهم بالواقع وحقوقهم، ومن يمنعهم من الوصول لهذه الحقوق بشكل حقيقي لا صوري كما هو الحال في الدول الغربية في الوقت الحالي، حيث الديمقراطية الأسيرة لسلطة وسطوة المال.
يقول د.محمد السعيد إدريس ''رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية'' في مقالة له بعنوان ''احتلوا وول ستريت'' في 17 أكتوبر 2011م: إن الشعوب لم تعد تثق في التمثيل السياسي ولا في الإنابة السياسية ولا في الانتخابات، بعد أن أدركت أن من يتم اختيارهم كممثلين لهم ولمصالحهم في البرلمانات ليسوا أمناء على ما يتعهدون بالدفاع عنه من مصالح تخص الناخبين، بل إنهم سرعان ما ينقلبون على هذه المصالح ولا يعملون إلا من أجل مصالحهم الخاصة وحرصهم على خلق السلطة، وأن يكونوا أدواتها بدلا من كونهم ممثلين لمن قاموا بانتخابهم، خصوصا بعد أن تأكدت الشعوب أن الانتخابات عادة ما تأتي بمن يملكون المال والدعاية والوجاهة من دون التزام شروط الإنابة.
''بارونات'' وول ستريت يملكون المال ووسائل الإعلام، فضلا عما يملكونه ممن صنعوهم من صناع ومتخذي القرار، أي أنهم هم من يصنعون نواب البرلمان الذين يدّعون في حملاتهم الانتخابية أن دورهم التشريعي والرقابي ينطلق من مصالح الناخبين وبمجرد فوزهم يتناسون كل هذا الكلام ليتفرغوا لخدمة أسيادهم على حساب الناخبين.
وتطبيقا لقاعدة تدميرهم في تدبيرهم أدت هذه التصرفات إلى شيوع قيم سياسية جديدة، أبرزها مراجعة الفكر الغربي الديمقراطي، خصوصا حول مبدأ ''التمثيل السياسي'' وقيمة الأحزاب السياسية في تحقيق هذا التمثيل، حيث فشلت هذه الأحزاب في تحقيقه على الصورة المنشودة، بل إن هذه الأحزاب أصبحت أداة بيد أصحاب المال في ''بارونات'' وول ستريت وأمثالهم في الدول الرأسمالية الأخرى.
هذه الأوضاع والمراجعات التي نشأت عنها جعلت الشعوب الغربية تتحرك لتمارس حقها في المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وحتى الأمنية مباشرة دون إنابة من حزب أو أفراد نجوم (وكلاهما في الغالب صنيعة رجال مال) حتى بات التوجه نحو الديمقراطية المباشرة يفرض نفسه خطوة خطوة، جنبا إلى جنب مع التوجه نحو الرأسمالية الاجتماعية التي تكافح رأسمالية الشركات ورأسمالية النخب، بل وحتى رأسمالية الدولة.
مستوى الوعي الجمعي في أمريكا والدول الرأسمالية تجاه سطوة رجل المال وتغولهم وأثر ذلك على مستوى حياتهم ومعاناتهم من الديون وبرامج التقشف التي تدعو لها الحكومات الغربية أو برلماناتها، دون تحميل رجال المال المشاركة القوية لإنقاذ الاقتصاديات الرأسمالية وتجنيبها الدخول في حالة ركود وارتفاع نسب البطالة والجريمة هو وعي في ازدياد، وبالتالي مستوى الضغط في ازدياد بالتبعية، والوعي والضغط هما العنصران الحاسمان نشأة ونجاح الاحتجاجات والثورات والتحولات، ولا شك أن وعي الشعوب بأسباب معاناة المحرومين والمظلومين نتيجة سطوة كبار الأثرياء أو من يمثلونهم وسيطرتهم على الحكم والمال والإعلام دون مشاركة شعبية حقيقية يشكل الوقود الأكثر كفاءة لاستمرار وتزايد حركة احتلوا وول ستريت وانتشارها وتحقيقها لأهدافها، وعلى رأسها محاسبة ''بارونات'' وول ستريت والحد من تغولهم.
ختاما، هل نحن جاهزون للتعامل مع تداعيات نجاح ''حركة احتلوا وول ستريت'' في تضخيم كرة الثلج، ومن ثم القضاء على سيطرة الـ 1 في المائة وانخراط الغرب في ديمقراطية تشاركية شفافة تفرض أنظمة سياسية واقتصادية تعيد للشعوب مكانتها وللأسواق المالية مهامها الأساسية في تعزيز قوة القطاعات الاقتصادية بدل من تحقيق الأرباح الفاحشة على حسابها؟ أم أننا ما زلنا نقلل من شأن هذه الحركة، كما قلل الكثير من تداعيات احتجاجات منطقة سيدي بوزيد في تونس؟