النفوذ في منطقة الشرق الأوسط بين كهنوتية إيران وبرغماتية تركيا
ثلاثة مشاريع لا تخطئها عين ناظر لبسط النفوذ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لرفع قدرة التحكم في مصيرها وتحقيق المنافع من وراء ذلك، المشروع الإسرائيلي، والمشروع التركي، والمشروع الإيراني، وكل منها يبذل جهودا كبيرة باستخدام كافة الأدوات المتاحة له، خصوصا تلك التي يتمتع بها بقوة نوعية لاغتنام الفرص المتاحة لتحقيق النفوذ المنشود، ومن ثم تحقيق المنافع السياسية والاقتصادية والثقافية المترتبة على ذلك النفوذ.
المشروع الإسرائيلي يعاني الرفض الكامل لدى شعوب وقادة المنطقة لاعتبارات كلنا نعرفها، فهو كيان احتلالي زرع في المنطقة ولا أمل له في التعايش بشكل طبيعي مع شعوبها طال الزمان أو قصر، ولذلك فهو يلعب على تعزيز قوته العسكرية ككيان وظيفي لبسط نفوذه على المنطقة لتحقيق الاستفادة المثلى من القوى الغربية لتحقيق طموحاته.
المشروع الإيراني يعتمد بشكل رئيسي على أتباع المذاهب الشيعية مهما كان الخلاف بينها، وذلك عبر بناء علاقات وثيقة معها من خلال التسلل لعواطفها ومناصرتها على الأكثرية السنية الأكثر حظوة في المنطقة العربية، كما هو حال الأكثرية الشيعية في إيران، وذلك للوصول إلى مرحلة السيطرة على مواقفها وتصرفاتها ومن ثم توظيفها لصالح تحقيق النفوذ المنشود، والدلائل واضحة كل الوضوح وقد وصلت آثارها إلى بلادنا بشكل مباشر في محافظة القطيف بعد أن وصلت آثارها لنا عبر الحدود اليمنية.
المشروع التركي يعتمد على سياسة براغماتية مستحدثة، حيث تسعى تركيا بنهجها الإسلامي المعتدل لتعزيز وجودها ولعب دور إقليمي دون أن تخسر علاقاتها مع أي طرف، كما تسعى لتقديم نموذج تنموي ناجح وفريد وجذاب ومحفز في المنطقة بمنطلقات فكرية إسلامية، ولا شك أن النجاحات التي حققتها تركيا من وراء هذه السياسة خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية على الصُعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية حسنت مواقف حكومات وشعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تجاه تركيا، حيث يُنظر إلى التجربة التركية الناجحة كتجربة ملهمة للنهوض المتسارع نحو الأفضل كما هو حال التجربة الماليزية التي سبقتها.
التنافس بين الأمم لتحقيق تطلعات وآمال شعوبها أمر أكثر من جيد ولا مشكلة فيه ما دام في إطاره الأخلاقي وهو ما تفعله حسبما أرى تركيا بخلاف ما تفعله إيران التي تسعى إلى تحقيق طموحاتها بتعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عبر التدخل في شؤون دول المنطقة بالتواصل المباشر مع مواطني تلك الدول وتحريضهم وتجنيدهم وعسكرتهم ودعمهم ماليا بالتزامن مع تعزيز قوتها العسكرية لتحقيق أهدافها على حسابهم وحساب دولهم وإن بدا لهؤلاء أن المشروع الإيراني يصب في مصلحتهم، حيث عادة ما يكون المدخل التركيز على الفرق بين مكتسبات الأكثرية السنية مقابل الأقلية الشيعية رغم أن ذلك هو الحال في إيران، حيث مكتسبات الفرس الشيعة تفوق كافة ما يحصل عليه الشيعة من العرب والأذريين فضلا عن السنة من العرب والأكراد والبلوش.
أخطر ما في المشروع الإيراني أنه يستخدم الكهنوتية للسيطرة على عقول مواطني دول المنطقة من المذاهب الشيعية قبل السيطرة على أموالهم وإمكانياتهم ومن ثم توجيههم لتحقيق مصالحه، حيث قامت الثورة الإيرانية ومن خلال فكر استراتيجي ذكي بترسيخ مبدأ ولاية الفقيه ووكلائه في المنطقة، وهي ولاية تتجاوز الحدود الجغرافية للدولة الإيرانية، وولاية الفقيه هي مصطلح ديني موجود في الفقه الشيعي، حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام الغائب في قيادة الأمة وإقامة حكم اللّه على الأرض، والإمام الغائب هو المهدي المختفي حسب رواية الاثنى عشرية، وهنا يكمن الخطر الكبير، حيث يصبح كلام الفقيه معادلا لكلام الله في قدسيته، أي أن كلامه حق مطلق لا نقاش فيه، الأمر الذي يمكنه من الهيمنة الكاملة على عقول أتباعه في إيران وخارجها دون أي فرصة متاحة لهم للنقاش وإلا فالنار مثوى لهم.
مخاطر الكهنوتية الإيرانية أنها تضرب الدين الإسلامي في خاصرته لكونها تخالف أبسط مبادئ الإسلام الذي جاء ليحرِّر الإنسان إلا من عبوديته لله - عزّ وجل -، ولِيُقرَّ مبدأَ وحدانيةِ الله ومفهومَ استقلاليةِ الإنسان وفرديتِه في إقامة صِلَته بالله ربِّه وتوثيقها، وانفراده أمامه بالمسؤولية والجزاء، كما أنها تضرب الوطنية هي الأخرى في مقتل، حيث يفوق الولاء للفقيه القابع خارج البلاد الولاء للوطن ولقيادته، وبالتالي إذا تعارضت توجيهات الفقيه مع مصلحة الوطن فإن الأمر محسوم لمصلحة الولي الفقيه.
مخاطر الكهنوتية الإيرانية أيضا تتمثل في توجيه كافة الجهود والطاقات والأموال للتأصيل الفكري لولاية الفقيه ومن ثم توظيف الأتباع المؤمنين نحو الأهداف، وهذا بطبيعة الحال يقلل جهود الدولة وإنفاقها في مجالات التنمية التي من المفترض أن تكون العنصر الحاسم في الموقف من القيادات بدل المنصب الديني، وهو ما نرى آثاره على الدولة الإيرانية التي رغم عظم ثرواتها البشرية والمادية لا زالت تعاني من مشاكل تنموية كثيرة ومتعددة أدت إلى صراعات داخلية متعددة آخرها المظاهرات التي تستهدف رفض رئاسة نجاد التي راح ضحيتها الكثير من المتظاهرين الأبرياء، وهو بخلاف الوضع الاقتصادي في تركيا التي يستمد قاداتها قوتهم من قدرتهم على تلبية حاجات ورغبات مواطنيهم وتحقيق أفضل مستويات العيش الكريم لهم والنهوض بالبلاد إلى مصاف الدول المتقدمة في كافة المجالات، وهو ما جعل شعوب المنطقة تتمنى النموذج التركي وترفض بشكل كامل النموذج الإيراني.
ختاما أتمنى من إخواننا من المذهب الشيعي في بلادنا العزيزة والبلاد العربية المجاورة المقارنة الدقيقة بين المنهجين الإيراني والتركي للوصول إلى أسرار كل منهما للوصول بالمحصلة إلى الحقيقة التي تقول إن الكهنوتية التي تستهدف الهيمنة والوصاية على العقول لن تأتي بخير، وإن اتباع دولة عجزت عن تحقيق الرفاه لشعبها وركزت جهودها في المجال العسكري وإشعال الفتن في المنطقة أمر غير مقبول وإن كان تتحدث على لسان فقيه يدعي أن كلامه مقدس واتباعه واجب وغير قابل للنقاش، وإن اتباع نموذج تنموي متفرد جاء بكل الخير لشعبه والمنطقة أولى وأجدى بكثير من ذلك.