السماع الجيِّد يسهم في التقاء الآراء ويحدد نقاط الخلاف
حدد الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد رئيس مجلس الشورى عددا من الآداب التي ينبغي على المتحاورين الاتصاف بها والقيام بها أثناء حوارهم وذلك في رسالة له عن أصول الحوار وآدابه في الإسلام, واعتبر أن التزام القول الحسن, وتجنب منهج التحدي والإفحام يأتي في مقدمة هذه الآداب حيث قال إن من أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حوار, التزام الحُسنى في القول والمجادلة, ففي محكم التنزيل: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن" الإسراء:53, "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن" النحل: 125.
"وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً" البقرة: 83.
فحق العاقل اللبيب طالب الحق, أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية, وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد, صلى الله عليه وسلم, في هذا الباب, الانصراف عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل, حيث قال الله لنبيه: "وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ" (68) "اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (الحج: 68-69). وقوله: "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (سـبأ:24). مع أن بطلانهم ظاهر, وحجتهم داحضة. ومن الآداب أيضا الالتزام بوقت محدد في الكلام حيث ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام, ويستطيل في الحديث, ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع.
والطول والاعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف ومن حال إلى حال, فالندوات والمؤتمرات تُحدَّد فيها فرص الكلام من قبل رئيس الجلسة ومدير الندوة, فينبغي الالتزام بذلك، والندوات واللقاءات في المعسكرات والمتنزهات قد تقبل الإطالة أكثر من غيرها, لتهيؤ المستمعين. وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة أو دور التعليم الأخرى.
ومن المفيد أن تعلم أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى ما يلي:
إعجاب المرء بنفسه.
حبّ الشهرة والثناء.
ظنّ المتحدث أن ما يأتي به جديد على الناس.
قِلَّة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم.
والذي يبدو أن واحداً منها إذا استقر في نفوس السامعين كافٍ لصرفهم, وصدودهم, مللهم, واستثقالهم محدِّثهم.
وذكر الشيخ ابن حميد من الآداب أيضا حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة حيث قال, كما يطلب الالتزام بوقت محدد في الكلام, وتجنب الإطالة قدر الإمكان, فيطلب حُسن الاستماع, واللباقة في الإصغاء, وعدم قطع حديث المُحاور . وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في التفكير فيما ستقوله, ولا تُلقي بالاً لمُحدثك ومُحاورك, وقد قال الحسن بن علي لابنه, رضي الله عنهم أجمعين: "يا بنيّ إذا جالست العلماء؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول, وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام, ولا تقطع على أحد حديثاً – وإن طال – حتى يُمسك".
إن السماع الجيِّد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء, وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه.
تقدير الخصم واحترامه
ينبغي في مجلس الحوار تأكيد الاحترام المتبادل من الأطراف, وإعطاء كل ذي حق حقه, والاعتراف بمنزلته ومقامه, فيخاطب بالعبارات اللائقة, والألقاب المستحقة, والأساليب المهذبة.
إن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق, والبعد عن الهوى, والانتصار للنفس. أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم.
وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام, لا ينافي النصح, وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة . فالتقدير والاحترام غير المَلَقِ الرخيص, والنفاق المرذول, والمدح الكاذب, والإقرار على الباطل.
ومن الآداب التي ينبغي الإتصاف بها حصر المناظرات في مكان محدود, حيث يذكر أهل العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور؛ قالوا وذلك أجمع للفكر والفهم, وأقرب لصفاء الذهن, وأسلم لحسن القصد, وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء, والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل.
ومما استدل به على ذلك قوله تعالى: "قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا" (سبأ:46).
قالوا: لأن الأجواء الجماهيرية والمجتمعات المتكاثرة تُغطي الحق, وتُشوِّش الفكر, والجماهير في الغالب فئات غير مختصة؛ فهي أقرب إلى الغوغائية والتقليد الأعمى, فَيَلْتَبسُ الحق.
واختتم هذه الآداب بضرور ة الإخلاص أثناء الحوار, وقال إن هذه الخصلة من الأدب متمِّمة لما ذكر من أصل التجرد في طلب الحق, فعلى المُحاور أن يوطِّن نفسه, ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار وحلبته.