القيادات الشاذة .. إن لم ترض عنك فقد تكيد لك كيدا
تطرقت في سلسلة مقالات سابقة عن الوضع الإداري للمنظمات العربية التي تأثرت كثيرا بالثقافة العربية والتي توصف في أغلبها بالمنظمات المحبطة القاتلة للإبداع والخانقة للمواهب. ففي المقال الأول بينت طريقة المنظمات العربية في إدارتها لموظفيها وطريقة استثمارها لمواردها البشرية وكيف أنها تتعمد البعد عن تطبيق الإدارة العلمية رغم ترويجها لأهميتها وإنشائها إدارات تهتم بالجودة وبالحوكمة.
وفي المقال الذي يليه - مقال الأسبوع الماضي - عرضت ملامح المنظمات العربية وذكرت أن أبرز ما يميزها أن موظفيها يشعرون بالغربة وأنها لا تهتم كثير بالخطط من رسالة ورؤية وأهداف ونحوها كما أنها تهتم بالرقابة على الولاء وليس الرقابة على الأداء وهي بذلك تأخذ شكل المنظمات المغلقة فتخشى الأضواء وتحب العمل في الظلام حتى لا يكشف ما بداخلها من انحرافات إدارية وتنظيمية.
وفي هذا المقال أريد أن أضح بين يدي الموظفين الذين يعملون في هذا المؤسسات آليات قد تعينهم على التكيف مع الأوضاع المأساوية التي تواجههم في بيئاتهم التنظيمية. فالوضع الإداري في مثل هذه المؤسسات بشكل عام يحتاج بالفعل إلى تغيير جوهري وكما نعلم أن تغيير العوامل الثقافية للمنظمات ليس بالأمر السهل وعادة ما يأتي التغيير فجاءه دون سابق إنذار ولا أظنه سيتأخر فالضغوط على العاملين في المؤسسات المحبطة بلغ أقصاه والتضييق على الناس في موارد أرزاقهم بلغ أوجه ولكنني لا أريد لأي موظف أن يكون ضحية لفكر إداري بلغ مرحلة الاعتقاد وعليه أن يترك الوضع حتى يتفجر بنفسه وأن لا يكون ضحية فيحمل على كاهله مهمة التغيير وحده بل يكون جزءا من التغيير وليس مصدره.
وحتى يأتي ذلك اليوم سوف أبين في مقالي هذا بعض الآليات التي يمكن للموظفين في المؤسسات العربية المحبطة أن ينهجوها وهي خلاصة أفكار بعض الخبراء في هذا المجال كونتها نتيجة احتكاكي بهم في عدة مناسبات دولية وإقليمية فأردت أن أطلعكم عليها لعل الكثيرين ينتفعون بها حتى يستثمروا أوقاتهم ويتجنوا صراع الثقافات التنظيمية التي يحذر منها علماء التنظيم فيقولون إن من يواجه الثقافة التنظيمية للمؤسسة التي يعمل فيها فكأنه يناطح غوريلا تزن 1000 رطل.
قبل كل شيء يجب أن نعرف أنه ليس جميع المنظمات العربية لديها تلك الانحرافات الإدارية فهناك منظمات قامت على أسس الإدارة العليمة وكونت بيئات عمل جديرة بالاحترام ولكنها مع الأسف قليلة جدا فإذا أتيحت لك الفرصة أن تنتقل إلى إحداها فافعل واهجر المؤسسة التي تعمل فيها حتى تحافظ على صحتك ومصدر رزقك وسمعتك، فمن خصائص المؤسسات العربية أنها تصطنع العراقيل وتنثرها أمام موظفيها المتمردين فإن لم يستجيبوا تضيق عليهم في مصادر أرزاقهم، فإن أصروا على العناد فإنها لا تمانع من تلويث سمعة من تريد منهم و تلفق لهم التهم وتلطخ ماضيهم وحاضرهم. لذا إذا استطعت أن تنتقل إلى المؤسسات المعروفة التي تكونت على مبدأ المؤسسة الرائدة ولديها نظام وسياسة مكتوبة واضحة يتحاكم الموظفين والقياديين إليها فافعل لأن هذا سيجنبك الكثير من الأعباء فهناك ستعرف طريقك ومالك وما عليك وما هي مهام عملك بالضبط التي سيقيم أداؤك عليها، فالأمور هناك واضحة لا تحتاج إلى مناورات ولا مؤامرات ولا تدليس ولا تغيير الكلم عن وضعه.
ولكن إن لم تستطع النقل، وهذا وضع الكثيرين، فما الذي يمكنك عمله؟ إن لم تستطع أن تنتقل إلى المؤسسات التي بنيت على مبدأ الولاء للمنظمة وتطبيق مبادئ الإدارة العلمية فحاول في التقاعد المبكر إن كانت ظروفك الأسرية ومقدرتك المالية تسمح بذلك، فهذا أفضل بكثير من دخولك صراعات لا قبل لك بها وتعرضك لضغوط وظيفية تفقدك أثمن ما تملك وهي صحتك. ولتأخذ من منسوبي بعض الجهات الحكومية عبرة عندما وجدوا أن البيئة لا تناسبهم وأن المهنة لم يعد لها ذلك البريق الذي ألفوه فخرجوا منها متسللين لأنهم فطنوا إلى أن إصلاح البيئة التنظيمية يكلفهم الكثير.
وإن لم تستطع النقل أو التقاعد عندها تنتقل إلى المرحلة الثالثة وهي الإصلاح. ولكن عليك أن تعلم أن من يرفع راية الإصلاح في البيئات المحبطة فإن هذا يعني النية في التغيير وكلمة التغيير هذه تعني التمرد. فمن ملامح الفكر الإداري للمؤسسات المحبطة خصوصا تلك التي تستمد وجودها من الثقافة التي تعيش فيها أنها ترفض الإصلاح الإداري وترى أنه يعني تغيير القيادات كما أن هناك مصيبة أخرى فالإصلاح معناه صياغة رسالة ورؤية للمؤسسة وهذا يعني تحويل الاهتمام ونقل المنافع من القائد إلى المنظمة أي من شخصية القائد إلى رمز المنظمة وبهذا فإن وجود القائد في قمة الهرم الإداري لم يعد له ذلك البريق لأن مهمة القائد أصبحت وظيفة لها شروط ووقت ومؤهلات وليست منصبا يحتكره حتى يتقاعد وقد يبقيه لابنه بعد رحيله.
ولكن إن لم تستطع النقل، أو التقاعد، أو الإصلاح فما عليك سوى التكيف مع الأوضاع المحيطة بك وقبول البيئة التنظيمية للمؤسسة التي تعمل فيها بكل عثراتها وسلبياتهما وعليك أن لا تزج نفسك في صدام وعراك وتدخل نفسك في صراعات يومية مع أشباح فأنت لا تصارع قائدا بعينه أو فردا تراه بل فكر وثقافة قد تشبعت بها المنظمة وأنت الخسران في كل الأحوال. ولكن كيف تتكيف؟ وكيف تتعايش مع هذه البيئات ومع هذه الثقافات التنظيمية التي تعيش بين حيطانها وكأنك في مؤسسة أمنية تعد أنفاسك وتحسب دقات قلبك؟ إن مهمة التكيف هذه تحتاج منا إلى تفصيل قد نؤجل الخوض فيه إلى مقالات قادمة بإذن الله.