متى يكتب «الرجل الأول» في الدولة.. مذكراته؟

كسر معهود البروتوكولات. خلع ''البشت''. جال الأحياء الفقيرة. زار المجمعات التجارية. صافح المواطنين. مازحهم. خالطهم. قبّل أطفالهم. تذوق أطباقهم. لامس همومهم.
واكب الشباب. تناول وجبة مع البطاطس المقلية. لعب ''البولينغ''. مارس الرمي. ساس خيله. داعب طيره. سلّ سيفه. وتفاعل ''عارضا'' مع بهجة المحتفلين.
نهى شعبه عن مخاطبته بـ''مولاي'' و''صاحب الجلالة''. نهاهم عن تقبيل يده كيلا تنحني ظهورهم إلا لله الواحد الأوحد. ذرف دمعة ''أب'' حين رأى ''اليتامى''. اعتذر للحضور عن التأخير. ولم يطلب من الأمة سوى الدعاء.
فيا لهذا القلب الكبير..
ما أطيبه. ما أطهره. ما أشد تواضعه..
وما أقسى قلوبنا حين لا ينزل البعض من عليائه تكبرا وعجرفة. ويا ''قواة عيننا'' حين لا نذرف دمعة أو لا نعتذر عن تأخير أو حين يطلب البعض منا ما هو ''أكثر'' من الدعاء..
مشاهد عالقة في أذهاننا. أعيد استعراضها، وأنا أترقب حلول عرسنا الوطني الحادي والثمانين (23 سبتمبر 2011م). تتشابك هذه السطور، فتأتي قبل حلول الموعد لا خشية الاندثار بين زخم الملفات الصحفية والتغطيات الإعلامية، وإنما تعبيرا عن أن ''الحب'' حين يغدو بحجم الوطن لا يقتصر على شعور يعترينا مرة واحدة في العام. فحب طاهر شريف يلامس أديم الأرض وخضرة البيرق يدوم أبدا. يأسر عقلك. ينبض به قلبك. يسري في عروقك ما ظلت فيها من حياة.
امتدادا لذلك ''الشغف''، نسأل: متى يكتب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز مذكراته؟ هل يكون ''سادس'' ملوك السعودية.. ''أولهم'' في كتابة مذكراته؟ هل يكسر ''صقر العروبة'' عادة الزعماء العرب المعروف عنهم بأنهم لا يكترثون بكتابة المذكرات؟ هل يكسر هذه العادة وهو الرجل الذي كسر من ذي قبل الجمود وحرك الساكن وقاد مسيرة الإصلاح والتغيير وأرغم المختلفين على المواجهة والحوار؟ هل يبوح لنا الرجل الذي علم شعبه ''المتحفظ عن البوح''.. مبادئ الانفتاح والشفافية؟
فيا توق نفسي إذ أُمسك بكتاب ذات مساء، أرى في سطوره العالم من منظور ''ملكي''. يا توق نفسي إلى ''رحلة'' عبر الزمن أجول فيها مع ''الرجل الأول'' في الدولة. نسير ونتوقف عند محطات الحياة ومعترك السياسة. منذ الطفولة والنشأة والدراسة، مرورا بتوليه – رعاه الله - رئاسة الحرس الوطني في عهد الملك فيصل (1964م)، ثم نيابته لمجلس الوزراء (1975م)، ثم ولايته للعهد ونيابته الأولى للمجلس (1982م)، ثم تقلده الحكم (2005م)، إلى لحظتنا الراهنة.
نصف قرن من الزمان أو يزيد من العمل السياسي شهدنا فيها أحداثا عصيبة وتحولات شابت لها ''العربان''، غيرت مجرى تاريخ العالم والمنطقة: النكسة، حرب أفغانستان، الحرب العراقية الإيرانية، غزو الكويت، حرب الخليج الأولى، مؤتمر مدريد للسلام، سقوط حائط برلين، انهيار الاتحاد السوفياتي، صراعات البلقان، أزمات الشرق الأوسط، 11 سبتمبر، حرب الخليج الثانية وغزو العراق، الأزمة المالية العالمية، ثورات الشباب.
أحداث سياسية واقتصادية عاصفة مرت بنا، ولا ننسى انعكاساتها الاجتماعية والثقافية. ترى.. كيف ستكون رؤية ورواية الملك عبد الله إزاء كل تلك الأحداث الكبرى التي تناولها رؤساء من الشرق والغرب في مذكراتهم؟ فالملك عبد الله لم يكن شاهدا فحسب، بل كان صانعا للحدث والقرار. وهنا تزداد أهمية تلك المذكرات. إذ لم تعد كتابة السير الذاتية/ المذكرات ضربا من الترف، بل هي حاجة يستلزمها التاريخ.
أنا شخصيا، أتعرف على الملك عبد الله من كثب من خلال ما يقال أو يروى عنه في وسائل الإعلام على ألسنة زعماء الدول. منهم من جايله فأبدى إعجابه بشخصية الملك. ومنهم من روى عن مواقف دارت بين الملك وبينه في الاجتماعات المغلقة. تحدث عنه رؤساء، ورؤساء وزراء، ووزراء، وسفراء دول. تحدث عنه رؤساء منظمات دولية ومشايخ ورجال دين ورموز في الاقتصاد والثقافة والإعلام. كل هؤلاء رغم اختلافهم في الملة والرأي والهوى، اجتمعوا بـ ''عبد الله''، وأجمعوا على خصاله الحميدة.
أتعرف عليه - يحفظه الله - من خلال ما يرويه المسؤولون والمقربون منه. ولعلي أسرد مثالا يوضح جوانب ''شخصية'' من حياة الملك. فقد روى الأستاذ إبراهيم الطاسان، المستشار في الديوان الملكي (رئيس الشؤون الخاصة في الديوان سابقا) لإحدى الصحف المحلية عن زيارات الملك للأسواق والأماكن العامة، وقال: (تفاجأنا كما تفاجأ المسؤولون عن الحراسة الأمنية، أن جميع الترتيبات الأمنية لسير الملك عبد الله وتنقلاته بين عدد من المواقع في المكان الواحد تتغير لحظة ما يكون هناك مواطنون أو مواطنات يرغبون السلام عليه، أو التحدث معه، أو تقديم شكوى أو مساعدة، ففي هذه الظروف يصعب السيطرة على الموقف، وحين يأتي الوقت الذي نسأل فيه الملك عن ذلك يجيب: ''لا تحرموني من رؤية شعبي''، ثم يتابع قائلاً: ''الحامي هو الله، وثقتي في شعبي أكبر من أن يقف حاجز أمامها'').
كما يحكي المستشار الطاسان موقفا آخر عن الملك، إذ يقول: (حين يسير موكب الملك عبد الله في الطريق إلى القصر أو الديوان ويتوقف فجأة، يتفاجأ الجميع أن سبب التوقف ليس عطلاً في السيارة، وإنما عين الملك عبد الله شاهدت مواطناً أو مواطنة تحتاج المساعدة، فينادي بصوته، ويفتح النافذة، ويتحدث بعفوية مطلقة، ويسأل عن حاجته، ويوجه بتقديم المساعدة، ولا يكتفي بذلك - حفظه الله - بل يسأل في اليوم التالي ماذا عملتم بموضوع الرجل أو المرأة التي قابلناها يوم أمس).
ولأننا نريد ألا يحول مراسلو ''واس'' بيننا وبين ملكنا، فإنني أطرح فكرة كتابة مذكرات الملك عبد الله انطلاقا من اهتمامين: عام وخاص.
فالاهتمام العام أنني مواطن وقارئ مثلكم يهتم بالاطلاع على سير ومذكرات الشخصيات ''الوطنية''. فما بالنا إذا كان الكتاب يصدر وبين دفتيه ذكريات الملك عبد الله؟
أما اهتمامي الخاص، فإنه ينبع إدراكا مني لأهمية توثيق ''المذكرات''. أقول ذلك انطلاقا من تجارب شخصية مررت بها أثناء عملي الصحفي في مجلة ''اليمامة'' السعودية (1995-1999م)، حيث تشرفت عبر باب ''بداية مشوار'' بمقابلة ''قامات'' من المسؤولين ورجال الأعمال والأدباء الذين أضافوا قيمة إلى الوطن وحققوا إنجازات نفتخر بها. كانت ذكرياتهم سجلا يعزز ''تراكمية'' التجارب و''عبرة'' الدروس في مجتمع ظل إلى عهد قريب لا يفصح أو يبوح للعلن. كنت ''شخصيا'' استمتع عندما يروي ''الضيف'' مشوار حياته بحلوها ومرها. بكل محطات النجاح والإحباط. أتماهى مع عوالم ''الضيف''، كمن يشاهد فيلما سينمائيا، لدرجة أنسى فيها أنني ''صحفي'' مكلف بمهمة عمل!
فهكذا إذن هي الحياة.. مشوار ومحطات..
ولنا فيها ''أمانٍ'' قد تتحقق ولا تتحقق..
لن أقول أن ''المذكرات الملكية'' .. ''أمنية'' كيلا تغوص في الاحتمال الآخر. بل سأقول أنها..
حق لنا..
حق للتاريخ..
للأجيال القادمة..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي