الصناعة النفطية تتجه إلى مناطق المياه العميقة بحثا عن الاحتياطات
جاء إعلان شركات "شيفرون تكساكو"، "ديفون"، و"ستاتويل" عن كشف نفطي كبير في منطقة خليج المكسيك مطلع هذا الشهر، حاملا دلالات للصناعة ككل بما يثير نقاشات تغطي جوانب عديدة مثل الاحتياطيات النفطية في المياه العميقة، التقنية اللازمة لاستخراجها، وتأثير هذا الاكتشاف في نظرية ذروة النفط التي لا تزال تجد رواجا ويستعر حولها النقاش ثم التأثير الحالي والمستقبلي لهذا الكشف على وضع الإمدادات ومن ثم الأسعار.
ووصف دانييل يرجن رئيس رابطة كمبريدج لأبحاث الطاقة ومؤلف كتاب الجائزة المعروف عن تاريخ صناعة النفط، الكشف أنه ساحة جديدة. فالكشف في هذه المنطقة وبالنسبة للولايات المتحدة، التي تستهلك واحدا من كل أربعة براميل يستهلكها العالم، هو الأكبر منذ الكشف عن حقل برودهو باي في ألاسكا قبل ثلاثة عقود من الزمان. البئر التي أطلق عليها (جاك 2) تقع على بعد 275 ميلا من الشاطئ جنوب غرب مدينة نيو أورليانز وعلى عمق ثلاثة آلاف قدم تحت الماء، حققت تدفقا انسيابيا ذاتيا بحجم ستة آلاف برميل يوميا، الأمر الذي يعطي فكرة عن حجم الاحتياطي رغم عدم تحديده بدقة، إلا أنه يعتقد أنه قد يكون أكبر من ذلك الذي اكتشف في برودهو باي وتتراوح التقديرات الحالية بين 3 و15 مليار برميل. وسيقوم الشركاء، الذين تتقدمهم "شيفرون" بنسبة 50 في المائة، بحفر بئر ثانية العام المقبل لتأكيد المعلومات والمضي قدما في التطوير في أواخر 2007 أو بداية العام التالي لذلك.
وإذا صدقت هذه التوقعات، فإن الاكتشاف سيضيف إلى الاحتياطي النفطي الأمريكي المقدر حاليا بنحو 29 مليار برميل نحو 50 في المائة زيادة، هذا إذا أخذ التقدير الأعلى لما يحتويه مخزون الحقل في الحسبان. وحتى بهذا الحساب، فإن الاكتشاف لن يضيف كثيرا إلى موارد أمريكا ويقلل من اعتمادها الإدماني على النفط المستورد، كما يقول الرئيس جورج بوش، لأن الاستهلاك الداخلي في تصاعد مستمر. وما يمكن أن يستخرج من هذا الحقل لن يكون كافيا إلا لمقابلة إجمالي الطلب المحلي لفترة عامين فقط، علما أن هناك فترة عام ينبغي إنفاقها لتحديد حجم النفط والغاز المكتشف وأربع سنوات أخرى للتطوير ومن ثم الإنتاج. وكل هذا يعتمد على بقاء الأسعار فوق 40 دولارا للبرميل كي يصبح الإنتاج من مثل هذا الحقل مجديا على المستوى الاقتصادي، وكذلك توفر آلات الحفر التي لها القدرة على العمل في مثل هذه الأجواء العميقة والصعبة بسبب ضغط المياه العالي. فبسبب الانتعاش الذي تعيشه الصناعة النفطية وزيادة النشاط التنقيبي فإن توافر الحفارات أصبح مشكلة، ناهيك عن أسعار تشغيلها المتصاعدة مثلما هو الأمر مع أي خدمة يشتد عليها الطلب.
ويساعد على تفاقم الموقف أن الكشف يشكل دعوة إلى الشركات الأخرى التي لديها تراخيص للعمل في منطقة خليج المكسيك، أمثال "إكسون موبيل"، "رويال داتش شل"، "بي. بي" أو "بريتش بتروليوم" سابقا، وشركة النفط البرازيلية الوطنية.
لكن أهمية الاكتشاف تكمن في أنه طرق منطقة المياه العميقة التي تمثل بديلا للنشاط التنقيبي في مناطق المياه الضحلة وتلك اليابسة، التي شكلت حتى الآن مصدر الإمدادات النفطية بصورة رئيسية. وتمثل منطقة خليج المكسيك ومياهها العميقة آخر منطقة يمكن أن يوجد فيها احتياطيات نفطية، الأمر الذي يتطلب تقنية متقدمة وأجهزة حاسوب للمسح الزلزالي في الأعماق، الأمر الذي لم يكن يتصوره أحد قبل عشر سنوات مثلا، كما يقول يرجن، لكن التقنية تتقدم مع تطور احتياجات الصناعة النفطية. فالشركات أصبحت تلجأ إلى القيام بعمليات المسح الزلزالي ثلاثي ورباعي الأبعاد، كما تستخدم كمبيوترات ضخمة وروبوتات يمكن السيطرة عليها وتوجيهها من على البعد مع توافر سفن جديدة تحمل أطنانا من المعدات وآلات الحفر. ولهذا فإن حفر حقل واحد على عمق يزيد على ألف قدم تحت الماء يمكن أن يكلف مليار دولار مقابل 100 مليون للعمل والحفر على عمق 100 قدم تحت الماء.
منطقة خليج المكسيك ظلت مزودا رئيسيا للإمدادات للسوق الأمريكية على مدى نصف قرن من الزمان، ومع تضاؤل الإنتاج من المناطق الضحلة وقرب الساحل اتجهت الشركات إلى مناطق المياه العميقة. وفي تقديرات إدارة الخدمات المعدنية التابعة لوزارة الداخلية، أن هناك احتياطيات في حدود 56 مليار برميل، وهو ما يمكن أن يفي باحتياجات الولايات المتحدة الاستهلاكية لفترة سبع سنوات.
ومنذ فترة أصبحت الاحتياطيات النفطية في المياه العميقة تلفت الأنظار خاصة مع تنامي الحديث عن ذروة النفط. وقبل عامين قام بيت الاستشارات الاسكتلندي المعروف "وود ماكنزي" بالتعاون مع "فرجو روبرتسون" بإعداد دراسة عن مستقبل الاحتياطيات النفطية في المياه العميقة، مشيرة إلى أنه يحتمل أن تغطي 180 مليار برميل من احتياطيات النفط والغاز غير المكتشفة، مضيفة أن حفر أكثر من ألف بئر استكشافية منذ عام 1996 في المياه العميقة أدى إلى التأكيد على نحو 60 مليار برميل كاحتياطيات مؤكدة. ويوجد نحو 75 في المائة من هذه الاحتياطيات في القارة الإفريقية، خليج المكسيك، والبرازيل، بينما بحر الشمال يتمتع بأقل من 4 في المائة.
وبالنسبة للدول، فهناك ما يعرف بالأربع العظام الذين يتمتعون باحتياطيات معتبرة، وهم الولايات المتحدة في منطقة خليج المكسيك، أنجولا، نيجيريا، والبرازيل. ويليهم المكسيك، مصر وأستراليا إذا أخذت الاحتياطيات الغازية في الاعتبار. وتحتوي هذه الدول السبع على نحو 90 في المائة من احتياطيات النفط والغاز في المياه العميقة. وتضم القائمة دولا أخرى من أصحاب الاحتياطيات الصغيرة، أمثال: النرويج، إندونيسيا، كندا، ماليزيا، الهند، ساحل العاج، موريتانيا، غينيا الاستوائية، والكنغو.
وتقدر شركة تكنيب الفرنسية التي لها نشاط مكثف في العمل تحت الماء، أن نحو 90 مليار برميل من الاحتياطيات النفطية في المياه العميقة توجد في إفريقيا، وأن ثلثها يمكن الوصول إليه بسهولة، وهي تعرّف المياه العميقة بأنها المنطقة التي يجري العمل فيها على عمق يتراوح بين 500 و1500 متر، وترى أن إفريقيا تمثل الخيار الأول للعمل في هذا المجال يليها كل من البرازيل ومنطقة خليج المكسيك خيارين ثاني وثالث.