الخدمة المدنية + العمل = وزارة الموارد البشرية (1 من 2)

خلال إجازة الصيف، استوقفني خبر قيام عضوين من مجلس الشورى بطرح مقترح دمج وزارتي الخدمة المدنية والعمل. حيث يشير الخبر الذي نشرته صحيفة "الرياض" العدد 15718، إلى أن لجنة الإدارة والموارد البشرية التابعة للمجلس لم تؤيد مقترح العضوين الدكتور سعيد الشيخ والأستاذ أسامة قباني، مبررة رفضها بحجة "صعوبة الدمج لأن مهام كل وزارة تختلف عن الأخرى اختلافاً جذرياً، وكل منهما محكومة بنظام يختلف عن الآخر".
في البداية، أحيي العضوين القديرين الشيخ وقباني تحية عطرة على مقترحهما الجريء، فقد طرحا على اللجنة ما كان يجول في أذهاننا من إعادة هيكلة "اللاعبين المؤثرين" في سوق العمل مما يعزز التوطين ويقضي على البطالة. فسوق العمل لا يخفى على العضوين المنتميين إلى لجنة الشؤون الاقتصادية والطاقة (وليس إلى لجنة الإدارة والموارد البشرية!)، وهما قبل وبعد انضمامهما إلى الشورى من رجالات الاقتصاد السعودي تنظيرا وممارسة.
كان بودي لو أطلعت على تفاصيل مقترح الدمج، وتابعت النقاش الذي دار داخل "اللجنة الشورية" مما دفعها إلى رفض المقترح. لكن انطلاقا من اهتمامي بالإدارة والتنظيم، أرى أن دمج الوزارتين ليس "سهلا" بالتأكيد، لكنه ليس "مستحيلا" في الوقت ذاته. فعملية الدمج في النهاية هي "إعادة هيكلة" تترتب عليها عدة إجراءات تشريعية وتنظيمية وإدارية ومالية تتخذها الدولة على المديين القصير والبعيد.
فأنا حقيقة لا أفهم المبررات التي تدعونا حتى يومنا هذا إلى الاحتفاظ بنظامين للعمل (نظام الخدمة المدنية ونظام العمل)، ونظامين للتقاعد (نظام التقاعد ونظام التأمينات الاجتماعية)، ووزارتين للعمل (وزارة الخدمة المدنية ووزارة العمل)، ومؤسستين للتقاعد (المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية)، وشركتين استثماريتين للتقاعد (رائد وحصانة)، وثلاث مؤسسات للتدريب (معهد الإدارة العامة، والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني وصندوق تنمية الموارد البشرية). إلا أنني أفهم تماما أنه إذا كانت هناك ظروف معينة في الماضي قد أدت إلى هذا الانقسام والتمييز بين قطاع عام وخاص، فإنها اليوم قد انتفت ولم يعد هناك لها من داع.

الإجراءات المترتبة على دمج الوزارتين
إن دمج وزارة الخدمة المدنية ووزارة العمل عملية "صعبة" كما ذكرت لجنة الشورى لكنها ليست "مستحيلة". وشتان بين "صعب" يمكن تحقيقه لكن بمجهود أكثر ووقت أطول، وبين "مستحيل" لا يمكن تحقيقه مهما بذل من مجهود أو صرف من وقت. وإذا تحقق هذا الدمج "الصعب"، فإنه سيحقق لنا 12 ميزة ينتفع بها القطاعان العام والخاص (المزايا مبينة في الجزء الثاني من المقال).
من الممكن دمج الوزارتين، لكن هذا يستلزم من الحكومة اتخاذ عدة إجراءات تشريعية وتنظيمية وإدارية ومالية تكفل إتمام عملية الدمج بكل نجاح وسلاسة. وهذا يتطلب تشكيل فريق عمل محدد task force يتولى التخطيط والتنفيذ لعملية الدمج، يتألف من مجموعة من الخبراء الإداريين والتنظيميين والقانونيين والماليين.
فالوزارة الناشئة عن الدمج (نفضل تسميتها بـ "وزارة الموارد البشرية" بدلا من "وزارة القوى العاملة" لأسباب كثيرة)، ستتولى الإشراف على شؤون التوظيف والتدريب والتأمين الاجتماعي في القطاعين العام والخاص. ويرتبط بوزير الموارد البشرية وكيل الوزارة لشؤون القطاع العام، ووكيل الوزارة لشؤون القطاع الخاص، ووكلاء آخرون. كما يرتبط بالوزير كل من محافظ مؤسسة التأمين الاجتماعي (وفق الفقرة ثالثا أدناه)، ورئيس أكاديمية التدريب (وفق الفقرة خامسا).

أولاً: توحيد أنظمة العمل
إن أنظمة العمل هي التي تضبط حقوق وواجبات الموظف أثناء خدمته. ولدينا نظامان للعمل. الأول نظام الخدمة المدنية الذي صدر في عهد الملك خالد - رحمه الله - بموجب المرسوم الملكي ذي الرقم (م/49)، وتاريخ 10/7/1397هـ، الذي يسري على "معظم" المدنيين من موظفي الحكومة وجهات عملهم. والنظام الآخر هو نظام العمل الصادر في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رعاه الله - بموجب المرسوم الملكي ذي الرقم (م/51)، وتاريخ 23/8/1426هـ الذي يشمل موظفي القطاع الخاص وجهات عملهم. وكخطوة تدريجية، يتم إلغاء نظام الخدمة المدنية (مؤلف من 40 مادة) مع إبقاء نظام العمل (245 مادة)، وتعديل بعض مواده ليتواءم مع موظفي القطاعين. علما أن بعض موظفي القطاع العام يخضعون حاليا لنظام العمل. وبعد سريان نظام العمل "المعدل" لفترة من الزمن، يكون "فريق العمل" قد انتهى من إعداد مسودة نظام عمل عصري وشامل يراعي موظفي القطاعين العام والخاص يرفعه بعد ذلك عبر قنوات الاعتماد. علما أنه لن يطرأ أي تغيير على مجلس الخدمة المدنية إذ سيظل المجلس قائما، وسيظل وزير الموارد البشرية - وهو الذي يمثل شؤون القطاعين - ممثلا فقط لشؤون القطاع العام عند انعقاد جلسات المجلس.

ثانيا: توحيد أنظمة التقاعد
أما أنظمة التقاعد فهي التي تحكم حقوق وواجبات الموظف بعد أن يتقاعد أو يعجز عن العمل. وفي السعودية هناك نظامان للتقاعد. الأول هو نظام التقاعد المدني الذي صدر في عهد الملك فيصل - رحمه الله - بموجب المرسوم الملكي ذي الرقم (م/41)، وتاريخ 29/7/1393هـ، ويسري على الموظفين الذين كانوا خاضعين لنظام الخدمة المدنية أثناء الخدمة. أما النظام الثاني فهو نظام التأمينات الاجتماعية الذي صدر في عهد الملك فهد - رحمه الله - بموجب المرسوم الملكي ذي الرقم (م/33)، وتاريخ 3/9/1421هـ، ويطبق على الموظفين الذين كانوا خاضعين لنظام العمل. وكما طرحنا في الخطوة الأولى على سبيل التدريج، من المقترح أيضا إلغاء نظام التقاعد المدني (مؤلف من 39 مادة) مع إبقاء نظام التأمينات الاجتماعية (70 مادة) وتعديل بعض مواده كتخفيض سن التقاعد المبكر، علما أن بعض موظفي القطاع العام يخضعون حاليا لنظام التأمينات.
وبعد سريان نظام التأمينات "المعدل"، يتم إصدار نظام موحد للتأمين الاجتماعي على أن يكون "مهجنا" ينتقي أفضل المزايا المتوافرة في كل نظام تقاعدي من النظامين. إذ يجب أن تقوم منهجية إعداد مسودة النظام "المهجن" على أساس تحري الأفضل لمصلحة المواطن والمواطنة. فنظام التقاعد يتميز عن نظام التأمينات بأنه حدد سن التقاعد المبكر بـ 20 عاما بدلا من 25 عاما. كما أن نظام التقاعد يصرف معاشا للموظفين الذين فقدوا وظائفهم لأسباب غير تأديبية إذا بلغت خدمتهم 15 عاما، وإذا قلت عن تلك المدة يصرف المعاش بنسبة معينة. أما نظام التأمينات فيتميز عن نظام التقاعد بتوافر فرع الأخطار المهنية الذي يغطي إصابات العمل. كما أن نظام التأمينات يحتسب المعاش على أساس الراتب الأساسي مع البدل (بدل السكن) مقارنة بنظام التقاعد الذي يحسب المعاش على أساس الراتب الأساسي فقط دون أي بدلات!
ومن الضروري الإشارة إلى أن مؤسسات التقاعد لا تحبذ فكرة تخفيض سن التقاعد المبكر، في حين تتحمس كثيرا لرفع السن الأساسي للتقاعد (من 60 إلى 65 عاما مثلا)، لأنها تريد أن تقصر من سنوات الصرف عليك وتطيل من سنوات الاستقطاع منك!. ولطمأنة المعنيين، فالنظام "المهجن" المشتمل على أفضل المزايا لن يؤدي إلى إفلاس مؤسسات التقاعد التي تملك أموالا طائلة من الاستثمارات لم يملكها قارون في زمانه - ما شاء الله -! وسيترتب على توحيد أنظمة التقاعد في السعودية إلغاء نظام تبادل المنافع بين نظامي التقاعد والتأمينات، وهو نظام بمنافع وجودها مثل عدمها!

ثالثا: دمج مؤسستي التقاعد
في كل بلد في العالم، هناك مؤسسة واحدة للتقاعد أو التأمين الاجتماعي إلا عند "بني يعرب". وهناك مؤسستان لدينا: المؤسسة العامة للتقاعد، والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية. فعندما تقام مؤتمرات أو ندوات عن التقاعد في الخارج "ينتدب" ممثل واحد عن كل بلد أجنبي إلا السعودية يمثلها توأم: موظف التقاعد وموظف التأمينات!
سيكون من السهل تنظيميا وإداريا بعد إتمام الخطوة القانونية - أي توحيد أنظمة التقاعد - دمج مؤسستي التقاعد في مؤسسة واحدة تسمى مثلا "مؤسسة التأمين الاجتماعي" OSI، يرأسها محافظ. وبالتالي سيتم دمج إدارات وفروع التقاعد والتأمينات الموزعة في المناطق والمدن داخل السعودية، ودمج ميزانيات المؤسستين، ودمج محافظهما الاستثمارية، وتوحيد أنظمة المعلومات، وتوحيد أنظمة وإجراءات العمل (كالمتعلقة بالتعامل مع المتقاعدين والمستفيدين والموظفين).

رابعا: دمج شركتي التقاعد الاستثمارية
تملك المؤسسة العامة للتقاعد شركة تدعى "شركة الاستثمارات الرائدة" (رائد) أسست عام 2007، فيما تملك المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية شركة خاصة بها تسمى "شركة حصانة الاستثمارية" (حصانة) أسست عام 2009. وتتولى كل شركة تشغيل أموال صندوق التقاعد التابعة له وإدارة استثماراته مما يكفل توفير سيولة كافية لصرفها على المتقاعدين وأسرهم في الحاضر والمستقبل.
ورغم أن إنشاء هاتين الشركتين جاء متأخرا، إلا أن مجيئه خير من عدمه. ذلك أن الاستثمار ليس العمل الأساسيcore business لمؤسسات التقاعد. إذ تتمثل مهمتها الأساسية في توفير خدمات "التأمين الاجتماعي" للمواطنين، وبالتالي عليها أن تتحرر من المهام الفرعية التي قد تحرفها عن عملها الأساسي كالاستثمار وذلك بإسنادها إلى "المحترفين" في ذلك المجال.
إذا دمجت الشركتان (رائد+حصانة= "رصانة" أو "حصالة"!) فستنشأ لدينا شركة استثمارية كبرى تؤثر في السوق السعودية. بل إن زواج "رائد" من "حصانة" سيحقق لنا المال والعيال. مال من الاستثمارات المختلفة. وعيال من أهل البلد لديهم وظائف من الفرص التي تخلقها الشركات المملوكة كليا أو جزئيا للشركة الاستثمارية الموحدة.

خامسا: دمج مؤسسات التدريب
استكمالا لمسلسل الازدواجيات، نجد أن لدينا ثلاث مؤسسات معنية بالتدريب في السعودية وليس مؤسستين. أولها معهد الإدارة العامة المرتبط بوزير الخدمة المدنية، وهذا المعهد مسؤول بصورة رئيسة عن توفير التدريب لموظفي القطاع العام، إضافة إلى تقديم خدمات الاستشارات والبحوث والتوثيق الإداري. وقد أسس المعهد قبل 50 عاما في زمن كانت الدولة فيه تتولى تنفيذ كل شيء بنفسها، وقبل أن نعرف عن فكرة الإسناد أو المقاولة في التدريب outsourcing.
أما المؤسسة الثانية والثالثة، فهما "المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني" و"صندوق تنمية الموارد البشرية" المرتبطان بوزير العمل. فالمؤسسة توفر التدريب التقني والمهني وتنظم سوق التدريب في السعودية، أما الصندوق فهو يوفر التمويل لأصحاب العمل لتحفيزهم على توفير البرامج التدريبية المنتهية بالتوظيف الأمر الذي يساعد في عملية التوطين.
ومن وجهة نظري، أرى أننا أمام ثلاثة خيارات(سيناريوهات) رئيسة عند دمج أجهزة التدريب على النحو التالي:
الخيار الأول: دمج المعهد والمؤسسة والصندوق، وبالتالي إنشاء كيان تدريبي كبير يسمى مثلا "أكاديمية التدريب" لها القدرة على توفير التدريب بنسبة 100 في المائة (اختصاصات المؤسسة والمعهد)، وتنظيم سوق التدريب (اختصاص المؤسسة) وتوفير التمويل (اختصاص الصندوق). ورغم أن هذا الخيار مطروح هنا في مقالي، إلا أنني أتحفظ عليه لأنه لا يأخذ بتاتا بفكرة الإسناد في التدريب.
الخيار الثاني: دمج المعهد والمؤسسة والصندوق، وبالتالي إنشاء كيان تدريبي كبير، يسمى "أكاديمية التدريب" لها القدرة على توفير التدريب بنسبة 50 في المائة مع إسناد النسبة المتبقية من تنفيذ التدريب إلى مراكز تدريب خاصة معتمدة وموثوقة، على أن يضاف إلى مهام الأكاديمية تنظيم سوق التدريب (اختصاص المؤسسة) وتوفير التمويل (اختصاص الصندوق).
الخيار الثالث: دمج المعهد والمؤسسة والصندوق، ومن ثم إنشاء كيان تدريبي كبير، يسمى "مؤسسة تنظيم التدريب" توفر التدريب بنسبة 0 في المائة، أي أنها تتخلى عن مهمة تنفيذ التدريب بنفسها وتسند كل مهام تنفيذ التدريب إلى مراكز تدريبية خاصة (أكرر مجددا "معتمدة وموثوقة" وليس إلى مراكز تدريب رديئة). بمعنى آخر، يقتصر دور "مؤسسة تنظيم التدريب" على ضبط وتنظيم سوق التدريب (الترخيص للمراكز التدريبية والبرامج التدريبية والمدربين ومراقبة أداء سوق التدريب) وتوفير التمويل لأصحاب العمل لتقديم البرامج المنتهية بالتوظيف (اختصاص الصندوق). أما بالنسبة للطاقم الأكاديمي (التدريبي) لمعهد الإدارة المشهود له بالكفاءة، فإن الجامعات السعودية ستتهافت على استقطابهم للعمل في كليات الإدارة التابعة لها.
ومن المقترح في كل هذه الخيارات الثلاثة أن يتم نقل اختصاص التوثيق الإداري من معهد الإدارة العامة إلى مكتبة الملك فهد الوطنية، ونقل الكليات التقنية التابعة للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني إلى وزارة التعليم العالي أسوة بما حصل أخيرا من نقل الكليات الصحية من مظلة وزارة الصحة إلى مظلة وزارة التعليم العالي. وهي خطوة إيجابية تصب في إطار التنظيم السليم بدلا من أن تكون كل وزارة دولة قائمة لوحدها لديها كليات ومعاهد ومدارس ومستشفيات!. فكل منظمة يجب أن تركز على عملها الأساسي core business وتتحرر من المهام الفرعية التي لا تدخل في صميم عملها. وهناك خيارات كثيرة لذلك التحرر التنظيمي.
إذا انتقلت الكليات التقنية إلى التعليم العالي، فإنه يمكن تنظيمها بعدة خيارات. فإما أن (1) تنضوي تحت جامعة واحدة تسمى "جامعة التقنية" أو أن (2) تتبع تلك الكليات لأقرب جامعة سعودية في منطقتها أو أن (3) تلحق بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية التي تمنح درجتي الماجستير والدكتوراه، وبالتالي تمنح من خلال تلك الكليات درجات علمية أقل (دبلوم وبكالوريوس) وترتقي بالمستوى الأكاديمي للكليات التقنية إلى معايير الجامعة نفسها، مما يكرس التوجه نحو الاقتصاد المعرفي.

المزايا والتحديات في الحلقة المقبلة

في الجزء الثاني (الأخير)، سنتناول المزايا والتحديات التي تترتب على عملية دمج وزارة الخدمة المدنية ووزارة العمل وإعادة الهيكلة الشاملة المترتبة عليها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي