النرويج.. الجريمة المزدوجة وحيثيات صعود جماعات التطرف الأوروبي
أعادت الجريمة المزدوجة الوحشية، التي ضربت النرويج في يوم الجمعة الماضي، مسألة الإرهاب إلى واجهة الأحداث العالمية من جديد، وأحدثت صدمة مروعة في البلد الذي يحتضن جائزة نوبل للسلام، ويتباهى بأمنه واستقراره المديدين، حيث لم يسبق أن تعرّض، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لمثل هذه المجزرة التي روّعت سكانه، وخلفت وراءها 76 قتيلاً، وعشرات الجرحى والمصابين، فضلاً عن الدمار الكبير والرعب الذي أحدثته.
وأصابت هذه الجريمة الإرهابية، قلب العاصمة النرويجية أوسلو، باستهدافها المجمع الحكومي المركزي الذي يوجد فيه مقرّ رئيس الوزراء النرويجي في حي الوزارات، إلى جانب المجزرة التي أزهقت أرواح شباب من الحزب الحاكم، كانوا موجودين في مخيم صيفي في جزيرة ''أوتويا'' القريبة من العاصمة.
ولا شك في أنها جاءت على خلفية تصاعد وتنامي نزعات التطرف القومي اليميني العنصري في العديد من البلدان الأوروبية، التي تولّد العنف والتطرف وكراهية الآخر، خصوصًا حيال العرب وسائر المسلمين في أوروبا. وهي لن تكون العملية الإرهابية الأخيرة من نوعها، بالنظر إلى امتداد انتشار أفكار التطرف القومي والنزعات العنصرية الرافضة قبول الآخر في كامل القارة الأوروبية، لذلك يجب على المسؤولين ورجال السياسة إعادة النظر في الاستراتيجيات المتبعة لمكافحة الإرهاب، وفي الأولويات والحسابات الأمنية والإعلامية، ليس في النرويج وحدها، بل في سائر البلدان الأوروبية الأخرى، فضلاً عن الولايات المتحدة وسواها.
بين أوكلاهوما وأوسلو
تنفس المسلمون في النرويج وأوروبا وخارجها الصعداء حين علموا أن منفذ الجريمة هو شاب نرويجي يدعى ''أندرس بيرينج برييفيك''، وصف بأنه ''أصولي مسيحي''.
وتعيد عمليته إلى الأذهان التفجيرات الإرهابية التي ضربت أوكلاهوما في 19 نيسان (أبريل) من عام 1995، واستهدفت مبنى ''مورا فيدرال بيلدينج'' الإداري في مدينة أوكلاهوما، الواقعة في جنوب الولايات المتحدة، ونفذها الشاب ''تيموثي ماكفي''، الذي وصف بأنه أصولي يميني، قريب من أوساط النازيين الجدد. وقد أودت الجريمة في ذلك الوقت بحياة 168 أمريكيًا، كان من بينهم 19 طفلاً، وأكثر من 500 جريح، ودمرت القسم الأكبر من المبنى المستهدف.
وتثير نقاط التشابه بين منفذي عملية أوكلاهوما وأوسلو ودوافعهما الدهشة، وتتطلّب التوقف عندها، حيث استهدفت كل منهما المباني الحكومية، واستخدم فيهما النوع نفسه من الأسمدة الكيماوية كمادة مفجرة، وكراهية الآخر: المسلم، كدافع، حيث لم يخفِ المتهم بجريمة أوسلو وأوتويا سخطه من تنامي عدد المسلمين في أوروبا الغربية، وتساهل الحكومات الأوروبية حيال ذلك، وهاجم في ''الميثاق'' الذي نشره على الإنترنت قبل تنفيذه الجريمة ما وصفه بـ''الاستعمار الإسلامي''، و''أسلمة أوروبا الغربية''، والحركات الداعية إلى تعدد الحضارات''، ويريد ''تسفير كل المسلمين الذين لا ينصهرون بشكل تام في المجتمع الأوروبي إلى بلدانهم الأصلية بحلول عام 2020 في حال استيلائنا على السلطة''، معتبرًا أن ''أساس المشكلات التي تعانيها أوروبا يكمن في فقدان ثقتنا بحضارتنا.. ولن يمكننا دحر الأسلمة ومنع الاستعمار الإسلامي لأوروبا الغربية، إلا إذا أزلنا أولاً كل العقائد السياسية التي تنادي بها الماركسية والحركات الداعية إلى تعدد الحضارات''. ويلخّص دافعه المباشر في ارتكاب الجريمة بالقول: ''بالنسبة لي شخصيًا كان السبب الرئيس هو ضلوع حكومتي في الهجوم على صربيا (من جانب حلف الأطلسي). فلم يكن مقبولاً أبدًا أن تهاجم الأنظمة الأوروبية والولايات المتحدة إخواننا الصرب الذين لم يقترفوا ذنبًا، سوى محاولتهم طرد الإسلام بتسفير الألبان إلى ألبانيا''.
ويبدو أن منفذ جريمة أوسلو وأوتويا، ''أندرس بيرينج برييفيك''، قد خطط منذ زمن طويل للقيام بفعلته الرهيبة، حيث يقول: ''لقد أمضيت تسعة أعوام من عمري في هذا المشروع. ففي عام 2000 أيقنت أن الصراع الديمقراطي ضد أسلمة أوروبا والمشروع الأوروبي متعدد الحضارات هو صراع خاسر. فقد قطع هذا المشروع شوطًا طويلاً.. وقررت استكشاف بدائل أخرى للمعارضة، فالاحتجاج يعني أنك لا توافق، ولكن المقاومة تعني أنك مصمم على إيقاف هذا النهج. عند ذاك قررت الانضمام إلى حركة المقاومة''.
ويتضح من ''الميثاق'' الذي كتبه برييفيك، الذي يقع في 1500 صفحة، أنه قرر الانتقال من العمل السياسي إلى العنف المسلح، كي يواجه ما يراه من تهديد للحضارة الغربية من طرف المهاجرين المسلمين، فوجَّه نيران أسلحته إلى حزب العمال النرويجي الحاكم؛ لأنه منفتح على الآخرين، وعمل على ''استقدام المسلمين''. كما يتضح أنه يحمل خطابًا سياسيًا، ينهض على مقولة صراع الحضارات، ويعتنق أيديولوجيا العنف، بوصفها الطريق الأمثل للوصول إلى ما يطمح إليه، وأن هدفه قتل أكبر عدد ممكن من الضحايا، حيث يرى أنه ''عندما تقرر أن تضرب، فمن المستحسن أن تقتل عددًا كبيرًا من البشر، وإلا فهناك خطر من أن تخسر التأثير الأيديولوجي المطلوب من الضربة''.
ولا يمكن الركون إلى فرضية أن مرتكب جريمتي أوسلو وجزيرة أوتويا شخص واحد فقط، وأنها عملية فردية، حيث اعترف بأنه يعمل مع خليتين في تنظيم يميني، وله صلات مع مجموعة عنصرية كارهة للمسلمين تأسست في بريطانيا، ولها امتداداتها الأوروبية والأمريكية، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى مرتكب جريمة مدينة أوكلاهوما، حيث سلطت الجريمة التي ارتكبها الضوء على ميليشيات ومجموعات اليمين المتطرف في الولايات المتحدة، لكن الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية خففت من تأثير الجماعات المسيحية الأصولية المتطرفة.
الانخراط الإسرائيلي
تشير مراكز البحوث والرصد الأمريكية المتخصصة في هذا المجال إلى أن عدد المجموعات المتطرفة والعنصرية ازداد كثيرًا في السنوات القليلة الماضية، خاصة بعد أحداث الـ11 من أيلول (سبتمبر) 2001، حيث ازداد بنسبة أكثر من 60 في المائة منذ عام 2000، فارتفع عددها من 602 مجموعة إلى أكثر من ألف مجموعة في العام الماضي حسب تقديرات مركز ''ساوذرن بوفرتي لوو سنتر''، الذي لفت الانتباه إلى أن مثل هذه الحركات انتشرت وتوسعت نشاطاتها، خاصة منذ انتخاب ''باراك أوباما'' رئيسًا للولايات المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2008، مرجعًا سبب ذلك إلى كونها استاءت كثيرًا من وصول رئيس أسود إلى البيت الأبيض.
وتكشف خيوط المجموعة التي يعمل معها مرتكب جريمة أوسلو عن وجود أصابع إسرائيلية وراء دعم حركات المجموعات المناهضة للمسلمين في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، الأمر الذي يؤكد انخراط إسرائيل في الحملات المعادية للعرب والمسلمين، حيث يعلن برييفك تأييده الواضح لإسرائيل في ''الميثاق'' الذي كتبه، ويأتي على ذكرها الإيجابي نحو 300 مرة، بل يصح وصفه بالصهيوني المتحمس، بالنظر إلى المديح الذي يكيله لـ''بنيامين زئيف هرتزل''، ومهاجمته للمؤسسة السياسية في أوروبا، خاصة الاتحاد الأوروبي، كونه بحسب رأيه مؤسسة غير متعاطفة مع إسرائيل، كما يثني على السياسات العدوانية للدولة العبرية؛ لأنها ''على مدى السنين لم تمنح لمعظم السكان المسلمين، الذين يعيشون تحت سيطرتها، حقوق المواطنة بعكس أوروبا، التي فتحت أبوابها أمام المسلمين، ومنحتهم المواطنة وحقوقًا زائدة''!
ويظهر مما كتبه برييفيك أنه كان على اطلاع واسع بالسياسات الإسرائيلية، وعلى تفاصيل الحياة الحزبية في إسرائيل، حيث يشيد برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ لأنه ''شكل ائتلافًا يمينيًا، حليفه الرئيس هو حزب إسرائيل بيتنا''، ويعتبر أن الوقت قد حان ''كي يتوقف الدعم الغبي للفلسطينيين، والشروع بدعم أبناء عمومتنا الحضاريين في إسرائيل''.
صعود التطرف والأصولية
تقدم الجريمة الإرهابية التي ضربت النرويج الدليل على تساهل المجتمع النرويجي وطبقته السياسية مع الحركات اليمينية المتطرفة والعنصرية، وينسحب الأمر ذاته على المجتمعات الأوروبية والأمريكية ونخبها السياسية، بل عرفت الولايات المتحدة صعودًا قويًا لليمين المسيحي المتطرف، وتوجه وصول جورج دبليو بوش إلى البيت الأبيض، الذي تحالف مع المحافظين الجدد ومع كل أطراف اليمين المتشدد، وقاد معهم حربًا ضد الإسلام والمسلمين، عَدَّها صليبية، وأفضت إلى نمو كبير للظاهرة التي أنتجت المتطرفين من أمثال برييفيك.
وبلغة التحليل العلمي، يمكن القول إن انتشار أفكار الصراع والصدام واللا تسامح وعدم قبول الآخر المختلف، أفضى إلى ظاهرة نمو الأصوليات، المسيحية والإسلامية وسواهما، خصوصًا بعد أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) 2001، حيث جنح الخطاب السياسي نحو النظرة الصراعية، التي تستند إلى خطاب أحادي شمولي حول التاريخ، يؤسس لتاريخانية أخروية جديدة، ولقيامة أخروية. والتقى خطاب الصراع، بوصفه خطابًا بلاغيًا للحدود، مع أصوليتين: إنجيلية جديدة ترفع راية النموذج الغربي، وإسلامية طالبانية ترفع راية الجهاد، وسعت كل منهما نحو انغلاق كليّ، ينتفي فيه التنوع والاختلاف، أي كل ما يخالف النموذج الأخروي الخالد، وأخذ المفهوم شكله القطعي في مفردات خطاب أي من الأصوليتين، إذ لا وجود لعالم الأغيار، فغاب بذلك أي إمكان للجدل والرأي والتبادل.
وحاول صانعو ومسوغو الخطاب الأصولي المتشدد تحويل مختلف المفاهيم الثقافية العالمية، من جهة كونيتها وحق الجميع بامتلاكها أو المشاركة فيها، إلى مفاهيم محض سياسية، وفق معياريتهم الخاصة، عبر عمليات من القفز فوق مختلف الحقول ودمجها بما يتوافق مع منطق إرادوي متسلط، لا ينطق سوى بما يراه من قيم أمريكية وأوروبية، وبما يتفق مع أسلوب الحياة الغربية، حتى صار كل ما عدا يقاس عليها كي يكتسب أهلية أو مشروعية. وعليه؛ أصبح الإسلام وفق هذا المنطق بنية إرهابية، تشكل خطرًا مباشرًا على القيم والحضارة الغربية، بعد أن تعرضت ماهيته الثقافية للتغيير والتقويل والتحوير، وتمّت عملية إعادة تأويله وتفسيره وفق المقتضيات السياسية للخطاب الغربي اليميني، بما يجعل الحضارة العربية الإسلامية حضارة السيف والقوة، أي حضارة تنتج الإرهاب، ومن ثم فإن المسلمين لا يكنون سوى العداء للآخرين، ويمثلون العدو الجديد الخطر الذي يتربص بالغرب، وهذا عائد إلى طبيعة الإسلام ذاته، وعليه، فلا سبيل إلا في مواجهته والتصدي له بالقوة. وهذا هو المنطق الذي أنتج ظاهرة القس جونز الأمريكي، الذي خرج بفكرته الشيطانية بحرق نسخ من القرآن الكريم، وأنتج كذلك برييفيك النرويجي الأوروبي، الذي استهدف بجريمته المزدوجة حزب العمال الحاكم في النرويج؛ لأنه سياسات متسامحة مع المهاجرين المسلمين الذي يشكلون خطرًا على الحضارة الغربية وفق تصور جماعات اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا. وقد استفادت الأحزاب اليمينية من جماعات اليمين المسيحي المتطرفة، وتلقفت أطروحاتها وشعاراتها، وطرحتها في برامجها الانتخابية، بغية كسب أصوات ناخبيها، وراحت تدغدغ مشاعرها من خلال تبني خطاب شعبوي عنصري، يحرض على الأجانب، وينمي نزعات التطرف داخل قطاعات واسعة من الشباب الأوروبي والأمريكي. وساهم كل ذلك في انتشار المجموعات الأصولية المتشددة في مختلف بلدان أوروبا وأمريكا.
والمأمول هو أن تقدم الجريمة المزدوجة، التي ضربت النرويج، درسًا للساسة الغربيين والأمريكيين ومجتمعاتهم، يفيد بأن الإرهاب لم يأتِ من الخارج بل من الداخل؛ لأنه وجد التربة الحاضنة، ومن ثم عليهم إيجاد الوسائل الناجعة لتجفيف منابعه، من خلال نشر قيم التسامح والاختلاف والضيافة، وإيجاد الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية المناسبة.