الحوار الوطني وممكنات حلّ الأزمة في سورية
> بدأت كلمة "الحوار" تتردد كثيراً، في الآونة الأخيرة، في الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية في سورية، والفضل يعود إلى تضحيات السوريين الذين بدأوا بالحراك الاحتجاجي السلمي منذ أكثر من ثلاثة أشهر، مطالبين بالحرية والكرامة والديمقراطية، وقدموا مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعتقلين. وقبل اتساع الانتفاضة التي يمثلها الحراك الاحتجاجي ما كان من الممكن الحديث عن "حوار وطني"، لأن السلطة الحاكمة لم تكن تسمع أو ترى إلا نفسها، ولم تعن مفردة الحوار بالنسبة إليها إلا كلمة لا تعنيها، ولجأت إلى الحل الأمني العنفي لمعالجة تأزم الأوضاع، لكن استمرار الحراك واتساعه أفضى إلى إقرارها بوجود أزمة وطنية، فاضطرت إلى تقديم جملة من الخطوات التي تضمنت إصدار بعض القرارات والمراسيم، لعل أبرزها إلغاء حالة الطوارئ والمحاكم العرفية والاستثنائية، وإقرار حق التظاهر السلمي، لكنها بقيت على الورق، دون أن تأخذ طريقها إلى التطبيق الفعلي.
ويبدو أن البحث عن ممكنات الخروج من الأزمة السياسية والوطنية العامة يجد في الحوار الوطني طريقاً مجدياً في حال توافر الشروط المناسبة والبيئة الملائمة له، إضافة إلى الإقرار بأن الأزمة فريدة من نوعها في تاريخ سورية الحديث، وتتطلب تضافر جهود جميع السوريين وإشراكهم الفعلي والعملي في تحديد حاضر ومستقبل ومصير بلدهم، وفي تحديد ممكنات الانتقال إلى دولة مدنية، ديمقراطية وتعددية، تتسع لجميع أفراد الشعب السوري ومختلف مكوناته.
اللقاء التشاوري
مع اتساع واشتداد حراك المحتجين في شوارع المدن والبلدات والقرى السورية، لجأت قوى النظام الحاكم إلى طرح "الحوار الوطني"، كي يكون عنوان المرحلة التي تمرّ بها سورية، فشكلت لجنة للحوار برئاسة نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع، في سابقة غير معهودة في تاريخ السلطة الحاكمة التي دشنها وصول حزب البعث إلى السلطة في عام 1963. وعقدت اللجنة لقاء تشاورياً رسمياً في العاشر من الشهر الجاري، ناقش دور الحوار الوطني في المعالجة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأزمة الراهنة، وبحث في الآفاق المستقبلية، وفي تعديل بعض مواد الدستور، وخصوصاً إلغاء المادة الثامنة، بغية عرضها على الجلسة القادمة لمجلس الشعب، مع عدم استبعاد وضع دستور جديد للبلاد، إضافة إلى مناقشة مشاريع قانون الأحزاب وقانون الانتخابات وقانون الإعلام وسوى ذلك.
وسمع السوريون، عبر وسائل الإعلام الرسمية، مفردات وتعابير لم يسمعوها من قبل في حضور شخصيات في السلطة، تتحدث عن "الديمقراطية التعددية" و"تداول السلطة"، وتنتقد "الدولة الأمنية" و"عسكرة المجتمع". لكن اللقاء التشاوري، التحضيري للحوار، الذي كان من المفترض أن يكون وطنياً جامعاً لكل أطياف وقوى المجتمع السوري، جاء من طرف واحد، نظراً لمقاطعته من طرف قوى المعارضة السياسية، واستبعاد القوى الفاعلة في تظاهرات وفعاليات الحراك الاحتجاجي، وخاصة الشباب.
ولم يترافق اللقاء التشاوري الرسمي باتخاذ خطوات ملموسة على الأرض، يمكنها أن تسهم في تهدئة الأوضاع وتلبية بعض مطالب المحتجين، الأمر الذي يقوي وجهة النظر التي تعتبره حواراً بين السلطة ونفسها، وبالتالي لم يكتسب أية سمة جدية تسعى إلى إيجاد الحلول المناسبة لمعالجة الأزمة السياسية العامة، التي تعصف بالبلاد منذ أربعة أشهر. كما لم يأت اللقاء بجديد، وساد فيه كثير من الكلام المكرور واللغة الخشبية، وحديث المؤامرة، لأن من معظم من شاركوا فيه لا يبتعدون كثيراً في أطروحاتهم وتوجهاتهم عن تلك التي يحملها رصفاؤهم من النظام الحاكم، فضلاً عن بعض الباحثين عن ودّ النظام ورضاه، على الرغم من أن اللقاء لم يخل من وجود بعض الشخصيات الجادة في البحث عن مخرج للأزمة التي تمرّ بها البلاد، وإيمانها بالوصول إلى الحل عن طريق الحوار.
ولم تُعرف فيما إذا كانت مهمة اللقاء التشاوري هي التحضير لمؤتمر حوار وطني عام، أو حصرها في بضع جلسات تحوّله إلى منبر لإلقاء الخطب وإعلان المواقف، لأن الأجدى ــــ في مثل هذه الحالة ــــ هو الاتفاق على تحديد طبيعة ومهام مؤتمر الحوار الوطني القادم، التي يفترض بها أن تعكس مطالب جميع أطياف ومكونات الشعب السوري، بعيداً عن مختلف الانتماءات الحزبية والولاءات ما قبل المدنية، بما يجعل هدف المؤتمر هو البحث الجاد عن حلول سياسية للأزمة العامة، والتي تجد ممكنات تحققها في إنهاء جميع أشكال وممارسات القمع والحل الأمني، وسحب وحدات الجيش من المدن والبلدات والقرى إلى ثكناتها وأماكنها، وأن يكون المؤتمر المنشود مؤتمر الشعب السوري، وتحت سقف الوطن، وليس مؤتمراً تحت مظلة ورعاية السلطة ومشاركة الأطراف والقوى القريبة منها، الأمر الذي يعني أن مهمة المؤتمر هي تبيان ممكنات ومعالم الطريق نحو الانتقال السلمي إلى من درجات دولة مدنية ديمقراطية تعددية، تضمن المواطنة وحقوق المواطن، وتنهي احتكار السلطة الذي دام فترة تزيد على 48 عاماً.
ويبدو أن النظام في سورية أراد من الدعوة إلى مؤتمر وطني، وعقد اللقاء التشاوري، كسب المزيد من الوقت، وإرسال رسالة مزدوجة إلى الداخل والخارج، تشير إلى أنه قادر على التغير والتغيير، وأنه جاد في تعهداته حيال القيام بخطوات إصلاحية، تنقل البلد من نظام السلطة الشمولية واحتكار الحزب الواحد إلى نظام ديمقراطي تعددي، ويريد إنهاء الأزمة وإيقاف تظاهرات الحراك الاحتجاجي الشعبي، لكن قوى المعارضة تشكك في نيته وفي قدرته على القيام بالإصلاحات اللازمة، وتطالب بتغيير طبيعة وبنية وتركيبة النظام المتقادمة، ووقف العنف والاعتقال التعسفي وإطلاق سراح المعتقلين وجميع سجناء الرأي.
عودة السياسة
يكشف المشهد السوري، في أيامنا هذه، عن متغيرات وتطورات مهمة وجديدة، لعل أبرزها عودة السياسة إلى المجتمع، بعد أن غُيّبت على مدى ما يزيد على أربعة عقود من الزمن، حيث أفرز الحراك الاحتجاجي أشكالاً جديدة من التنظيم السياسي، تتمثل في تشكيل لجان تنسيق وشبكات واتحادات محلية في مختلف المدن والبلدات السورية، التي تستفيد مما توفر التقنيات الحديثة، وخصوصاً شبكة الإنترنت، وبالتحديد ما يوفره "الفيسبوك" من إمكانات للتواصل والتنظيم لم تكن معروفة من قبل، إضافة إلى إنشاء شبكات إخبارية تنقل صور وأحداث التظاهرات في مختلف مواقع التظاهرات.
وأفرز التغير الجديد في المشهد السياسي لقاءات ومؤتمرات عديدة عقدت في داخل سورية وخارجها، فبعد مؤتمري أنتاليا وبروكسل، شهدت العاصمة دمشق، لأول مرة منذ عقود، عقد لقاء تشاوري لمجموعة من المثقفين والمعارضين المستقلين في فندق سميراميس، ثم عقد لقاء تنسيقي لمجموعة من الأحزاب المعارضة، تمخض عنه تشكيل "هيئة تنسيق وطني لقوى التغيير الديمقراطي في سورية"، ثم جرى لقاء آخر في فندق سميراميس نفسه، ضمّ مجموعة من الشخصيات التي لا تتفق مع قوى المعارضة السورية ولا تعارض النظام تماماً، وسمّوا أنفسهم أصحاب "الطريق الثالث"، وسيعقد في 16 من الشهر الجاري "مؤتمر الإنقاذ الوطني" دعت إليه مجموعة من الشخصيات المعارضة.
يشهد كل ذلك على أن المشهد السياسي السوري يختلف اليوم كثيراً عما كان عليه قبل اندلاع الانتفاضة السورية في 15 من آذار (مارس) من هذا العام. وبات يمكن للجمهور العام وقواه الحيّة الدخول في الحوار وتبادل الرأي في كل مسائل الشأن العام، وخاصة كيفية الانتقال إلى سورية جديدة. بمعنى أنه بات من الممكن البحث في سبل الخلاص من الأزمة الحالية، بصبر ورويّة، والابتعاد عن الشعارات الطنانة، والاقتراب أكثر من جوهر السياسة القائم على التداول والخطاب الواقعي والمنطقي والاستعداد للتفاعل وللتبادل والتسويات.
وأفرز المشهد الجديد تبدلات جديدة في مولدات الحراك الشعبي، حيث برز دور الشباب السوري بشكل لافت في توليد وصناعة الأحداث، مثلما برز من قبل دور الشباب التونسي والمصري في توليد وقيادة الحدثين التونسي والمصري، الأمر الذي أكد مرة أخرى على دور الشباب في صناعة وقيادة الثورات والانتفاضات والمتغيرات. واللافت هو تكييف الشباب لأدوات التواصل الإلكترونية والمعلوماتية وتسخيرها في خدمة حراكهم، سواء من خلال التحشيد وتصميم الشعارات أم من خلال تحقيق إجماع ورأي عام بعيداً عن قيود ورقابة النظام الحاكم، وبالتالي ظهرت أجيال جديدة، يحركها قادة من الشباب أنفسهم، لا ينتمون إلى حزب معين، ولا يعتنقون أيديولوجية معينة، وما يحركهم هو الإحساس العميق بالظلم والإحباط واليأس وانعدام الأمل بالمستقبل في ظل الأوضاع القائمة. واختارت الأجيال الجديدة الخلاص من واقع الإحباط وانسداد الأفق والانتقال إلى مواقع الفعل الاجتماعي، والاستفادة القصوى من إمكانياتهم، فاكتسبوا جرأة التفكير والتنسيق، والتعبير عن تطلعاتهم وتوقهم للحرية والتغيير وقيادة الحركات الاحتجاجية للوصول إلى واقع جديد وأفضل.
ويعبر الحراك السوري عن لحظة تحوّل من منظومة سياسية وخطابية وأخلاقيّة قديمة ومحافظة، مدارها القمع والضبط والمراقبة والملاحقة، إلى منظومة جديدة أكثر انعتاقاً، مؤكدة على ضرورة إنزال الأفكار الكليانية والشمولية من عليائها وغطرستها، والتمرد على مختلف الأطر القمعية والمقولات الحتمية والشمولية، المدعية للشرعية المطلقة في جميع المجالات، والصالحة لكل مكان وزمان. وعليه، يقدم المشهد السوري مثالاً جديداً للشعوب العربية، ولشعوب العالم التي ما زالت ترزح تحت نير السلطات الشمولية، في كيفية المواجهة السلمية وحشد طاقات الشباب المتمكن من استخدام تقنيات التواصل في مواجهة تقنيات وأساليب السلطة الحاكمة.
ممكنات الحوار
لا شك في أن طريق حل الأزمة القائمة يتطلب توفر ممكنات الحوار، التي يجسدها توافر أجواء سياسية ومدنية تعم البلاد، وتأمين الظروف الصحية للبحث عن نقاط التقاطع بين مختلف القوى الفاعلة، وتتيح إنتاج عمليات فرز على أسس برامجية سياسية واجتماعية، يجري التوصل إليها، لتشكل خريطة طريق يتم رسمها بالافتراق مع جميع أشكال الحل الأمني والاعتقال التعسفي وقمع المتظاهرين.
وتعد قوى المعارضة السورية أن ممكنات الحوار تتمثل بوقف الخيار الأمني، ووقف استخدام الأمن والجيش في معركة مع الشعب، والإفراج عن جميع الموقوفين منذ انطلاق الانتفاضة وعن جميع المعتقلين السياسيين القابعين في السجون منذ سنوات عديدة، وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لمحاسبة المسؤولين عن قتل المتظاهرين، والرفع الفعلي لحالة الطوارئ والأحكام العرفية، والإقرار بضرورة إلغاء المادة الثامنة من الدستور.
غير أن الأهم هو أن الدعوة إلى عقد الحوار الوطني تعني البحث عن حلول سياسية للأزمة، ولا يستوي ذلك في ظل سيادة الحل الأمني واستمرار أعمال القمع، لأنها طاردة لأية بيئة تفاوضية صحية، تتيح للمتحاورين الدخول في حوار معمق، يمكنهم من الخلاص من المأزق الراهن، الذي يتجسد أحد تجلياته في تصوير الأزمة على أنها مؤامرة خارجية تدعمها التحركات الشعبية، وتستغلها القوى المتربصة بسورية وبمواقفها الوطنية.
لن يفيد النظام تصوير الأزمة على أنها مؤامرة خارجية مدعومة من الداخل، لأن ذلك يزيد من عمق الأزمة، ويحول دون التوصل إلى ممكنات حلها لصالح الدولة والمجتمع ومجموع المواطنين. كما لن يفيد كذلك الإمعان في الحل الأمني، كونه سيفضي إلى تأجيج الاحتجاجات وتصاعدها، وإلى تمزيق النسيج الاجتماعي السوري، فضلاً عن إزهاق أرواح آلاف المواطنين، واستنزاف طاقات وقدرات البلاد، ولن يجدي في حل الأزمة التي تعصف بسورية.