توجيه الإعانات بدلاً من تعميمها

تعد الإعانات من وجهة نظر النظرية الاقتصادية أحد العوامل التي تساهم في تشويه قوى العرض والطلب من السلع والخدمات في الاقتصاد، حيث لا تعكس القدرة والاستعداد الحقيقي للأفراد لدفع قيمة السلعة أو الخدمة. لكنها في الوقت نفسه ومن وجهة نظر مؤيديها تساهم في تخفيف الكثير من الأعباء التي يتحملها الأفراد نتيجة ارتفاع أسعار الكثير من السلع والخدمات الرئيسة، ومن ثم في تحسين مستوى المعيشة في الدولة. والإعانات في المملكة تتخذ أشكالاً مختلفة، سواء من خلال تحويلات نقدية مباشرة، أو بتخفيض أسعار السلع الرئيسة كالبنزين والكهرباء والماء بتحمل الدولة جزء من تكلفتها، ودعم أسعار بعض السلع كالحليب والأرز والشعير، أو بدعم التعليم من خلال المكافآت والابتعاث، أو من خلال تحمل تكلفة العلاج في الخارج، أو من خلال إعانات البطالة ودعم التوظف، أو من خلال قروض الإسكان. المؤسسات تتلقى أيضاً أشكالاً مختلفة من الإعانات تتمثل في القروض الميسرة، والوقود المنخفض التكلفة، والأراضي الزراعية والصناعية، والإعفاءات الجمركية.
كل ذلك من أشكال الدعم التي تقدمها الحكومة سواءً للأفراد أو للمؤسسات، وبالطبع هذه الأشكال من الدعم تؤدي إلى تكلفة كبيرة جداً على موازنة الحكومة سنوياً، وستزداد تكلفتها مستقبلاً تبعاً للزيادة في أعداد السكان، والنمو في الأنشطة الاقتصادية المختلفة، مما يستدعي النظر بشكل سريع في هذه الإعانات، ليس بهدف إلغائها، لأنها تحقق أهدافا اجتماعية واقتصادية تضعها الدولة على رأس قائمة أولوياتها. ولكن من المهم إعادة النظر في الكثير من هذه الإعانات بتقييمها وترشيدها لكي تحقق بشكل أفضل الأهداف الاجتماعية والاقتصادية المرجوة. وعملية التقييم يجب أن تتم على أسس مختلفة، أولها منطقية الإعانة وما ينتج عنها من تشويه للاقتصاد من خلال الاستهلاك المفرط، وثانيها من خلال استحقاق الإعانة من عدمه بناءً على مستوى الدخل الفردي للمواطن. أضف إلى ذلك أن هناك عملية تصدير كبير للإعانات التي تقدمها الدولة، من خلال استفادة العمالة الأجنبية منها، دون أدنى تكلفة مادية يتحملها هؤلاء تخولهم الحق بالاستفادة من هذه الخدمات وبالتكلفة نفسها التي يتحملها المواطن.
فبالنسبة للأفراد، فإن الكثير من الخدمات أو السلع المعانة تقدم للجميع دون اعتبار لتفاوت مستويات الدخل الفردي بين المواطنين مما يؤدي إلى تعميق هوة التفاوت بين مستويات الدخل بدلاً من تضييقها. خذ على سبيل المثال قروض الإسكان التي لا تأخذ في الاعتبار أحقية المواطن فيها بناءً على مستوى الدخل الفردي، أو خذ مثلاً منح الابتعاث سواءً الداخلي منه أو الخارجي، أو مكافآت الطلبة الجامعيين. هناك عدد كبير من أبناء المقتدرين مادياً الذين يدرسون على حساب الدولة سواءً في الداخل أو الخارج، مما يضيق الفرصة على الكثير من أصحاب الدخول المتوسطة أو الدخول المنخفضة. أضف إلى ذلك أن قدرة أصحاب الدخول العالية أو أصحاب المناصب على الوصول إلى هذه الخدمات أو المنح بشكل أسهل من أصحاب الدخول المتوسطة أو المنخفضة، بناءً على نفوذهم الاجتماعي والاقتصادي، يجعل من الضروري وضع الضوابط اللازمة لتحقيق العدالة في توزيع هذه الفرص، ومن أهم هذه الضوابط الأحقية بناءً على مستوى الدخل الفردي. هناك حاجة فعلية إلى النظر في هذه الإعانات لكي تخدم بحق هدف الدولة الرئيس في تحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل، ودور أكبر لوزارة الشؤون الاجتماعية مطلوب تحقيقه في إطار الوصول إلى هذا الهدف.
المؤسسات أيضاً لها نصيبها من الإعانات والدعم الذي قدمته الدولة لها، وإعادة تقييم وترشيد هذا الدعم بناءً على تحقيق هذه المؤسسات للأهداف الاقتصادية والتنموية التي تتطلع إليها الدولة مطلوب في هذه المرحلة. هناك الكثير من القروض الزراعية والصناعية والاستثمارية التي تقدمها الدولة، كما أن هناك الكثير من الدعم الممنوح لكثير من الأنشطة سواءً التعليمية أو الصحية أو غيرها، والتي تتطلب إعادة النظر فيها لتتسق بشكل أكبر مع الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. من أهم الأهداف الاقتصادية التي يفترض مراعاتها عند تقييم أحقية الدعم من الدولة مساهمة النشاط الاقتصادي في زيادة فرص التوظف بالنسبة للمواطنين، لأن ذلك يرتبط بشكل مباشر بزيادة معدل النمو الاقتصادي. أضف إلى ذلك الكثير من الأهداف التي يجب مراعاتها كالمحافظة على البيئة، والمسؤولية الاجتماعية، وتشجيع الإبداع، وزيادة الاكتفاء الذاتي، ورفع مستوى التعليم، وزيادة الإنتاجية وغيرها من الأهداف التي يجب أن تراعي في عملية تقييم استحقاق الدعم.
الإعانات غير الموجهة تمثل تكلفة مادية مباشرة على موازنة الدولة، وقد يكون من الصعب استدامتها في المستقبل إذا لم يتم ترشيدها. كما أن لها تكلفة غير منظورة على الاقتصاد من خلال الاستهلاك المفرط الذي لا يحقق هدفاً اقتصادياً أو اجتماعياً كدعم الفئات المنخفضة الدخل من المواطنين، وإعادة توزيع الدخل، مما يستوجب إعادة النظر فيها لتستهدف الطبقات المتوسطة والمنخفضة الدخل من المواطنين. وإذا ما استمرت الإعانات عامة وغير موجهة لهذه الطبقات المستحقة لها، فإن ذلك يعني تكريساً لتفاوت الدخل بين الأفراد بدلاً من إعادة توزيعه. فصاحب منزل كبير مثلاً يستفيد من خدمات الماء والكهرباء المدعوم أكثر من غيره من متوسطي ومنخفضي الدخل، مما لا يمثل توزيعاً عادلاً للدخل والتكلفة بينهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي