سباق أمريكي ـ صيني على نفط القارة الإفريقية
في إعلان مباغت قال الرئيس التشادي إدريس ديبي مطلع الأسبوع الماضي، إنه أمهل شركتي شيفرون تكساكو الأمريكية وبتروناس الماليزية مهلة 24 ساعة لمغادرة البلاد، لتقاعسهما عن دفع الضرائب المترتبة عليهما. وفي لقاء جماهيري لاحق أضاف ديبي "نحن دخلنا معركة لتثبيت السيادة الاقتصادية لتشاد. قراري هذا خطير، لكنني أخذته رغم تكلفته ومخاطره العالية".
النزاع بين الحكومة والشركتين يعود إلى موضوع الضرائب الذي تقول الشركتان إنهما معفوتان منها بموجب اتفاقات موقعة مع مسؤولين في الدولة، لكن وزيرا آخر هو محمد بشير أدكورمي المسؤول عن الرقابة والأخلاقيات في الدوائر الحكومية، كان يحضر مؤتمرا في ماليزيا أوضح أن الشركتين أخطأتا بعمل اتفاق مع ثلاثة وزراء لإعفائهما من الضرائب، بينما كان عليهما معرفة القانون الذي يحصر عملية الإعفاء هذه ويجعلها من صلاحيات البرلمان فقط. الوزراء المشار إليهم هم: محمد حسن ناصر وزير البترول، محمد علي حسن وزير التخطيط، ومختار موسى وزير الثروة الحيوانية، وتم إعفاؤهم من مناصبهم فيما بعد.
لكن بعيدا عن الجانب القانوني والضريبي فإن خطورة القرار تتمثل في أن الشركتين لهما سوية حصة 60 في المائة في الكونسورتيوم الذي بدأ استخراج النفط التشادي عام 2003. وتقود الكونسورتيوم شركة إكسون موبيل بحصة 40 في المائة، ثم "بتروناس" 35 في المائة، و"شيفرون تكساكو" 25 في المائة، الأمر الذي يطرح تساؤلا عن مآل هذه الحصص.
نظريا فإن شركة النفط الوطنية، التي تكونت حديثا، يمكن أن تحل محل الشركتين الأجنبيتين، على أن الحديث الرائج في الدوائر النفطية أن تشاد قد تلجأ إلى الصين لتقوم بملء الفراغ عبر إحدى شركاتها، مثل الشركة الصينية النفطية الوطنية التي تنشط في السودان المجاور كما في مناطق أخرى من القارة الإفريقية. ويستند هؤلاء إلى الإجراء الذي قامت به تشاد مطلع الشهر الماضي وقطعت بموجبه علاقتها الدبلوماسية مع تايوان، وهو ما يمهد الطريق إلى علاقات متنامية ببعدها النفطي بين بكين وإنجمينا. فلتشاد احتياطي نفطي مؤكد في حدود 900 مليون برميل وفق إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، وبلغ متوسط إنتاجها العام الماضي 250 ألف برميل يوميا يذهب الجزء الأكبر منها للتصدير.
احتمال حلول شركة النفط الوطنية الصينية محل "شيفرون تكساكو" يعيد إلى الأذهان التجربة الصينية في دخول مواقع عديدة في القارة الإفريقية واستفادتها من عمليات خروج أو إخراج الشركات الغربية، خاصة الأمريكية منها، الأمر الذي يشير إلى عنصر صراع من نوع آخر بين أكبر دولتين مستهلكتين للطاقة لتأمين مواقع الإمدادات لصالحها.
علاقات الصين بالقارة الإفريقية قديمة وتعود إلى ما بعد جلاء الاستعمار في مطلع عقد الستينيات، لكنها في تلك الفترة كانت تحمل نفسا يساريا ولهجة أيديولوجية واضحة، لكن مع الاندفاعة الجديدة للصين تجاه إفريقيا في العقد الماضي فإن اللهجة تغيرت وأصبح التركيز على الوصول إلى الموارد الطبيعية التي تحفل بها القارة، وكانت في السابق قاصرة على الدول الغربية وشركاتها وذلك بسبب تحول الصين إلى الاهتمام بالاقتصاد أكثر من الأيديولوجيا .
علاقات إفريقيا المستقلة بالغرب اكتنفها توتر لعدة أسباب، على رأسها أنه وبسبب ضغوط الرأي العام في البلدان الغربية فإن الحكومات وجدت نفسها تضغط على الدول الإفريقية لتحسين سجلها في ميدان حقوق الإنسان والاتجاه نحو التحول الديمقراطي والبعد عن الفساد واعتماد الشفافية في ميادين العمل السياسي والتعامل مع المال العام، وهو ما لم تستطع عليه الكثير من الدول الإفريقية صبرا.
الصين من جانبها حددت لنفسها هدف الوصول إلى الموارد الطبيعية التي تتيحها إمكانيات القارة الفتية ودون إشغال نفسها بالجانب السياسي الداخلي، ولهذا وجدت فيها الكثير من الدول الإفريقية حليفا قويا مستعدا للقيام بمغامرات وضخ استثمارات كبيرة في مناطق ذات مخاطر عالية، وهي غير معنية بوضع قيود سياسية على الدولة المتلقية، كما أنها عند اللزوم يمكن أن توفر غطاء دبلوماسيا في المحافل الدولية.
والأمثلة كثيرة وعديدة: أنجولا كانت تخوض في مباحثات متعثرة مع صندوق النقد الدولي للتوصل إلى قرض لمساعدتها على القيام ببرامج لإعمار البلاد بعد سنوات الحرب الأهلية الطويلة. الصندوق أصر من جانبه على ضرورة قيام أنجولا بإصلاحات اقتصادية وفق روشتته المعروفة، لكن مع ظهور الصين لجأت إليها أنجولا وتمكنت من الحصول على قرض بقيمة ملياري دولار ودون شروط سياسية أو إجراءات تفرض على أدائها الاقتصادي، وذلك مقابل الحصول على مربعات للعمل فيها بدلا من شركتي توتال الفرنسية وشل الهولندية ـ البريطانية.
نيجيريا تمثل نموذجا آخر، فهذه الدولة التي تعتبر ثامن أكبر مصدر للنفط في العالم وهي عضو في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) وخامس أكبر مصدر للنفط إلى السوق الأمريكية، إلا أنها تعيش متاعب لا حصر لها من فساد مستشر وعنف كاد يرقى إلى مرتبة الحرب الأهلية، وهو ما يؤثر في صناعتها النفطية، حيث يقدر لها خسارة ما بين 70 ألف إلى 300 ألف برميل يوميا بسبب سرقة النفط من خطوط الأنابيب، وهو ما يكلف الدولة نحو مليار ونصف المليار دولار يوميا في أكثر التقديرات محافظة. هذا إلى جانب أن قرابة نصف مليون برميل يوميا تظل خارج الشبكة الإنتاجية لأسباب تتعلق بالعنف السياسي خاصة في منطقة دلتا النيجر.
الحالة النيجيرية تمثل نموذجا جيدا لكيفية التعامل الأمريكي والصيني مع تعقيدات أوضاع الدول الإفريقية. فواشنطن ترى الحل في مواجهة المعضلات التي ترتع فيها نيجيريا, إنما يتمثل تسريع التحول الديمقراطي ونشر الشفافية في ممارسة الحكم والتأمين على مبدأ التداول السلمي للسلطة، ومن هنا ضغطت على الرئيس أوليسيجون أوباسانجو أن ينأى عن محاولة تعديل الدستور للسماح له بفترة رئاسية ثالثة.
الصين من جانبها ليست معنية بكل هذه القضايا الداخلية، ولذا فهي على استعداد لتلبية طلبات الحكومة بتوفير بعض العتاد العسكري لمواجهة المتمردين عليها.
السودان من جانبه يمثل نموذجا ثالثا للتعامل الصيني مع دول القارة، فجانب الحلول محل شركة شيفرون في المناطق التي قامت الأخيرة باكتشاف النفط فيها بكميات تجارية وأخذها الحصة الكبرى بين الشركات التي تشكل الكونسورتيوم العامل هناك، وتوفير السلاح للجيش السوداني، فهي قامت في مرات عديدة بتوفير الغطاء الدبلوماسي للحكم في السودان في مواجهة قرارات عدائية في مجلس الأمن، وذلك من خلال تلطيف لهجة تلك القرارات أو تجنب اتخاذ خطوات حادة كالمقاطعة أو اللجوء إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة، وذلك بصفتها عضوا دائما في مجلس الأمن ولها حق النقض. على أن السودان يمثل من الناحية الأخرى حالة تلتقي فيها المصالح الصينية والغربية. فتوقيع اتفاق السلام الذي أنهى أطول حرب القارة الإفريقية بين الحكومة السودانية والجيش الشعبي لتحرير السودان يفتح الطريق أمام حدوث استقرار سياسي يمهد للمزيد من استغلال الثروات الطبيعية التي تحفل بها البلاد.
وبسبب تباشير السلام تلك عادت شركات: "توتال"، "ماراثون"، وشركة النفط الكويتية لتجديد أمر امتياز قديم كان لها، الأمر الذي يؤذن بعودة الشركات الغربية. وستجد الصين أن من مصلحتها كما من مصلحة الدول الغربية تعضيد عملية السلام ودعمها لتحقيق المزيد من الاستقرار والانفراج السياسي.
تمثل القارة الإفريقية خيارا واعدا فيما يتعلق بفرص العمل والاستثمار، فمنطقة الشرق الأوسط الغنية بموادها واحتياطياتها النفطية تظل مغلقة إلى حد كبير على الشركات الأجنبية خاصة في ميدان العمليات الأمامية، أما بقية العالم، فباستثناء منطقة بحر قزوين لا يبدو في الأفق منطقة ذات جاذبية تذكر، ولهذا فإن كل واحد من أربعة براميل تم اكتشافها بين عامي 2000 و2004 خارج أمريكا الشمالية إنما تعود إلى إفريقيا. وتتوقع بعض الدراسات أن يتم إنفاق 50 مليار دولار في شكل استثمارات على مشاريع نفطية في القارة الإفريقية في منطقة خليج غينيا خلال هذا العقد، وفق تقرير لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، وسيكون نصيب الشركات الأمريكية نحو 40 في المائة من حجم هذا الإنفاق.
يوجد في إفريقيا 8 في المائة من الاحتياطي النفطي العالمي المؤكد، وهي تزود السوق بنحو 12 في المائة من الإمدادات. وتتصدر القائمة نيجيريا، ليبيا، وأنجولا، كما تبرز منطقة غرب القارة من ساحل العاج إلى أنجولا بصورة خاصة منطقة واعدة, إذ إن 70 في المائة من الإنتاج النفطي الإفريقي يأتي منها، وهو نفط يمتاز بقلة المحتوى الكبريتي فيه، الأمر الذي جعله مرغوبا في السوق الأمريكية والصينية على حد سواء.
الولايات المتحدة تستورد في الوقت الحالي نحو 15 في المائة من وارداتها النفطية من إفريقيا، وتأمل أن ترفع هذه النسبة إلى 25 في المائة بنهاية العقد الحالي. أما الصين فتستورد حاليا ربع وارداتها النفطية من إفريقيا. وفي الوقت الذي يبلغ فيه حجم التجارة الأمريكية ـ الإفريقية 44.5 مليار دولار عام 2004، فإن رصيفتها الصينية ـ الإفريقية تنطلق بسرعة، إذ يتوقع لحجمها أن يرتفع من 18.5 مليار دولار قبل ثلاث سنوات إلى 30 مليارا هذا العام، وهو أمر غير مستبعد، خاصة أن هناك 70 شركة صينية تعمل في 49 قطرا إفريقيا.