أخلاقيات المهن الصحية مفهوم يحتاج تبنيه إلى ممارسة

في ندوة عقدت في معهد الإدارة خلال الأسبوع الماضي ناقشت تطلعات وزارة الصحة المستقبلية في الشأن الصحي كانت المواضيع المطروحة والدراسات قيمة جدا وأعتقد أنها ستؤتي ثمارها ـــ بإذن الله. من خلال أحد الردود أكدت الهيئة السعودية للتخصصات الصحية أنها بصدد إعادة إصدار كتيب أخلاقيات المهنة، الذي تأمل أن يكون نقطة تحول نحو الأفضل في تقديم الخدمات الصحية وتجويدها في المرحلة المقبلة. لا أشك أبدا في أن التوجه والعمل نفسه يدل على اهتمام كبير بمواكبة النمو العددي والمكاني في تقديم الخدمات الصحية على مستوى المملكة، ووجوب الاعتماد على أسس مهنية أخلاقية بجانب المهارية لمقدمي الخدمة أينما كانوا. ولكن أجد أن هناك مرحلة قد تسبق العمل، أتمنى أن تكون قد استكملت، وهي قياس مدى فاعلية المنشور السابق واستجابة مقدم الخدمة أو الممارس الصحي لمحتواه. ثم القيام بعدة دراسات ميدانية تضع وتصف المشكلة وحجم تناميها بين مقدمي الخدمة الذين أصبحوا عدديا أضعاف ما كان يخرج قبل ستة أعوام فقط. إن مجرد النظر لإعداد الكليات (بالذات الصحية والطبية) والقبول خلال السنوات الخمس الماضية ليجد أن تنامي الأعداد بنسب عالية يحتم إعادة عرض أي سياسات وإجراءات من شأنها ضمان سلامة المرضى وحسن التعامل معهم ورفع المستوى المهاري والمعرفي. من جانب آخر تزايد شكاوى المرضى وتنوعها لا بد أن يقدر حجما لتحديد أطر المشكلة ومن ثم تكون إعادة الصياغة مبنية على استكمال رصد العوامل المؤثرة في الموضوع. سوق العمل تفرض بعض التوجهات، ولكن لا بد من التوازن في تقييم عناصر تقديم الخدمة الصحية وجعل الدراسات تحدد الأولويات.
لقد أثبتت الدراسات منذ نهاية التسعينيات أن أهم عامل يؤثر في أخلاقيات الموظفين (في موضوع أخلاقيات المهن) هو المدير أو المديرين بصفة عامة، فإما الإجادة وإما البلادة. بالطبع نسمي ذلك في لغتنا وقواميسنا بـ ''القدوة''. لذلك إذا أردنا أن نحاسب موظفا على تخطيه وتجاوزه معايير أخلاقيات المهن وبالذات في الشأن الصحي، فإن أول ما يجب أن ينظر إليه ويقيم هو المدير للتأكد من قدرته على القيادة بجانب الإدارة. يلي ذلك في الأهمية نظم المؤسسة نفسها (اكتمالها وتكاملها)، ثم بيئة الموارد البشرية المحيطة، ثم برامج التأهيل التي تخرج فيها هؤلاء الموظفون، وبالطبع من هم الذين شرب الطلاب منهم هذه العلوم وتتلمذوا على أيديهم، ومن ثم شخصية الموظف والقيم التي يتبناها لعيش حياته بالأسلوب الذي اختار. هذا يقودنا أيضا إلى المرحلة التالية وهي البدء في المقارنة مع الغير وكيف تخطوا هذه المراحل. في العادة نقارن أوضاعنا الصحية مع عدد من الدول ومن أكثرها قربا لوضعنا أستراليا. الآن في أستراليا يوجد ما لا يقل عن ثماني جهات رئيسة تشرف وتقنن أخلاقيات المهن، وهي المرجعية في المتابعة والرقابة والتنظيم ... إلخ. السؤال هو: هل بدأنا هذا المشروع وسيكون لدينا مع نهاية العام مجموعة من الهيئات أو حتى أوكلت هذه المهام للهيئات القائمة بالعمل كل في اختصاصه، فيكون في كل تخصص أخلاقيات مهنية ولها آليات للتطبيق؟
الآن لدينا الهيئة السعودية للتخصصات الصحية وباقي الهيئات المعنية بتنظيم وتقنين أخلاقيات المهن المختلفة، فلماذا لا نسمع عن نشر دراسات كللت بإصدار تم تحديثه بغرض تعزيز مواده وفقراته فيكون معمولا بها لحقبة من الزمن؟ ثم لماذا لا نحدد أصلا من هو المنوط به وضع المعايير والأسس التي تنطلق منها جميع الجهات التي تقوم بالتوعية والتثقيف المهني؟ ومن المنوط به النشر والتسويق أو التوزيع ومن ثم من هو المتابع والمراقب وصاحب الصلاحية في الحساب، فإما الإشادة والمكافأة وإما تنفيذ العقاب؟ ثم لماذا لا يشرك المجتمع في مثل هذا الموضوع، وقد أشير إلى أهميته في أبحاث وأطروحات علمية مهمة سابقا، حيث ذكر أنه إذا تبنى المجتمع هذا المفهوم فهو المحرك لتحديث مفرداته؟
في عصرنا الحاضر أصبح التطبيب على الخط المباشر On line، فهل أخذ ذلك في الحسبان، خصوصا أن المرافق الصحية الآن تخطط للتواصل مع المريض بشأن المراجعات ومتابعتها بعد العمليات الجراحية وجرعاته الدوائية... إلخ؟ كما أننا نعلم تماما أن من لهم علاقة بالشأن الصحي كثر وليسوا من نراهم يقدمون الخدمة في المرفق الصحي فقط، بل هم أيضا خارجه مثل مسوقي الأدوية أو بوالص التأمين. هذه الفئة قد تؤثر بهداياها ووعودها على رأي الطبيب أو الصيدلي في المرفق الصحي، وبالتالي قد تنحرف الوصفة لمجاملة؛ وهو أمر رصد علميا منذ التسعينيات وتم تحديد حجم المشكلة منذ بداية الألفية الثالثة، فهل سيشملهم هذا الكتيب أيضا؟ ثم هل اجتمع الاقتصاديون ليضعوا مدى تأثير تبني هذا المفهوم على الرعاية الصحية في المملكة؟ وأخيرا .. ما زال هناك حوار يتمحور حول موقف الإسلام من بعض الممارسات الصحية، فهل تختلف معايير وأسس أخلاقيات المهن الصحية في القبول والرفض بين الأديان المختلفة؟ هل درست هذه على مستوى التفاصيل ويمكن الإشارة أو مراعاة ذلك في الإصدار الجديد؟
أختم بقول: منذ أكثر من 35 عاما وبالتحديد في عام 1975 تخصصت مجلة في نشر الأبحاث العلمية حول أخلاقيات المهن الطبية. بالرغم من أن هذا الموضوع ليس بالحديث حيث سجل قدمه بقدم الطبابة، إلا أن التوسع في بعض الفقرات وتطوير بعض المفاهيم وتسارع بعض الإجراءات واستحداث التقنيات جعلت من المرجعية العلمية توثيقا يحافظ على ثبات هذه القيم بين مقدمي الخدمة. فهل يتتبع ويقرأ جميع الممارسين الصحيين في المملكة هذه المجلة وأمثالها؛ حيث تكون متاحة لهم جميعا؟ آمل أكثر من ذلك، والله المستعان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي